كان الرئيس جمال عبدالناصر يجلس فى الصف الأول لمتابعة ذلك الحفل المقام بمناسبة ذكرى ثورة 23 يوليو، وانفرج الستار عن الفرقة الموسيقية ثم دخل عبدالحليم حافظ وقبل أن تنطلق نغمات الموسيقى كما هو متوقع، جاء صوت الرئيس مسجلاً:
إن هذا الجيل من أبناء شعب مصر جاء على موعد مع القدر.. ثم عادت الموسيقى لعزف مقدمة أغنية «مطالب شعب» التى كتبها أحمد شفيق كامل وغناها عبدالحليم:
طريق الثورة طريق النصر
عاش الجيش وتعيشى يا مصر
من يوم ما انتصرت ثورتنا
مع جيشنا وحارس عروبتنا
ويوماتى فى نصر جديد طالع
مع كل صباح على أمتنا
أمة أحرار كلها ثوار ولا كلمة لغير شعبها فيها ولا كلمة
عاش الجيش وتعيشى يا مصر
باسم الشعب يا بطل الشعب.
الفكرة كما اعترف بذلك صاحبها أحمد شفيق، ونفذها الملحن الكبير كمال الطويل ولم يكن يتوقع لها أن تجد كل هذا القبول، لأن المسافة بين السياسة والفن ليست بعيدة، ولهذا يعيش فن هؤلاء وما قالوه منذ أكثر من سبعين عاماً يصلح أن يقال اليوم وكل يوم.
والملحن الطنطاوى الذى تربى فى بيت وفدي، كان من أكثر المتحمسين لثورة قامت لكى تساوى بين أغنياء امتلكوا كل شيء وفقراء افتقدوا كل شيء، فكان الغناء للعامل والفلاح والمدرس، ولم يكن غريباً أن يكون صاحب أغنية «صورة» هو نفسه الطويل وإن اختلف الشاعر ليكون صلاح جاهين:
يا زمان صورنا يا زمان
هنقرب من بعض كمان
واللى يبعد م الميدان
عمره ما هيبان فى الصورة
خضرة وميه وشمس عفية
وقبة سما زرقا مصفية
ونسايم سلم وحرية
ومعالم فن ومدنية
ومداين صاحية الفجرية
على أشرف ندهة وأدان
دى بلدنا.. مصر العربية
صورة منورها الإيمان
وفى كل مناسبة يتجدد السؤال، ما الذى اختلف فيه كمال الطويل عن أبناء جيله محمد الموجى وبليغ حمدي، وقد أحاط ثلاثتهم بعبدالحليم وصنعوا معاً هذا الذى يعيش حتى يومنا هذا؟!.. بعد أن رحلوا جميعاً وتركوا هذه الآثار الباقية الأصيلة.. لقد عاش «الطويل» راهباً فى محراب الفن، لا يمسك العود إلا فى اللحظة التى يجد نفسه فيها مندفعاً بكل حماس، وكان يفخر بأنه طوال عمله بالموسيقى لم يحترف مثل غيره، وكم من فترات غاب فيها لأن المزاج مش ولابد، والكلمة التى تحركه لم تحضر بعد، وإذا كانت بدايات حليم مع الشهرة مرتبطة باسم الموجى فى أغنية «صافينى مرة»، فإن الطويل هو الذى فتح الباب أمام عازف الأبوا الشرقاوي، لكى يدخل من باب الغناء، بينما هو الطنطاوى الذى درس بقسم الأصوات وتحول إلى الموسيقى وظل شامخاً فى كبرياء بلا غرور واثقاً فى نغماته، ولا بأس أن يعترف لأم كلثوم بأن أغنية «غريب على باب الرجاء» ليست كما يريد ورجاها أن تنساها بعد أن سجلتها بصوتها حتى وصفتها «الست» بعد ذلك بأنها أغنية «مشمومة».
كم من الأغانى المجانية قبلها الطويل راضياً مرضياً، ورغم كل ما قدم للثورة وللعواطف وللحياة ذهب إلى البرلمان ممثلا لحزب الوفد فى وقت من الأوقات وكانت اتجاهاته كلها على أرض الواقع منحازة للبسطاء والغلابة رغم مظهره الباشاواتي.
فهل تصدق أن من لحن نشيد «والله زمان يا سلاحي»، هو نفسه الذى قال عبدالحليم على موسيقاه «فى يوم فى شهر فى سنة تهدى الجراح وتنام.. وعمر جرحي.. أنا أطول من الأيام».. وهو الذى غنت له سعاد حسنى «يا واد يا تقيل» وقالت ماجدة الرومى على ضفاف ألحانه «ساعة أقوم الصبح قلبى حزين» ومع ما حققه من شهرة وتميز، كان يعترف لمن حوله: لابد أن أدرس المزيد، لأن الألحان تشابهت علينا، وما درسناه سابقاً تجاوزه الزمن والدنيا فى تطور.
إنه الرجل الذى كانت حوائط بيته تنطق بثقافته وهى تتزين بلوحات بول جاجمان وفان جوخ، وعندما سألوه عن ابتعاده الواضح لسنوات طويلة غاب فيها تعاونه مع صديقه عبدالحليم حافظ، اعترف بصراحة:
عندما بدأ يقود الفرقة الموسيقية همست إليه أكثر من مرة «مش معقول يا حليم أنا أقول للفرقة يمين وانت تقول لها شمال».
وعندما وجد الكلمات التى تناسب حليم لم يتردد أن يمسك العود ويدندن بها انتظاراً لعودته من رحلة علاجه الأخيرة، ولم يعد حليم إلا فى صندوق يحمل جثمانه من لندن، تحلق فوق نعشه طيور الغناء وهى تنشد على موسيقى الطويل:
بالأحضان بالأحضان
يا بلادنا يا حلوة بالأحضان
فى ميعادك يتلموا ولادك
يا بلادنا وتعود أعيادك
والغايب ما يطقش بعادك
يرجع ياخدك بالأحضان
بالأحضان يا حبيبتى يا أمي
يا بلادى يا غنوة فى دمي
أنت مين يا أستاذ؟!
السؤال الذى يطرحه مشوار كمال الطويل بين الغناء لله وللوطن والمواطن والمشاعر والربيع، كيف أقنعنا فى كل لون؟!.. انها المصداقية وأن تتعامل مع فنك بروح الهواية ولا تتحول إلى ما يشبه بوابة المترو إن لم تضع التذكرة فى الماكينة فلن تعبر، فكم من الذين يمارسون الفن فى أيامنا هذه غنوا لثورة 30 يونيو كما غنى حليم بموسيقى الطويل عن 23 يوليو.
لم يقف الطويل عند مرحلة «يا رايحين الغورية» و«ياغاليين عليا يا أهل اسكندرية» وهما بوابة شهرته، لكنه استمر يغنى للبلد مهما اختفى الأشخاص وتبدل الزمان غير الزمان، فهل سمعت «عليّ صوتك بالغنا» مع محمد منير، وقبلها ماجدة الرومي، حتى قال له الكاتب الكبير أحمد رجب: إن ما يتناثر من ألحانك وأنت تجلس إلى البيانو ويدخل سلة المهملات يكفى لإنقاذ أسماعنا من الغناء البليد الذى يحيط بنا.
قال رجب هذا الكلام قبل طوفان المهرجانات وتقاليع الراب والراي، ونحن البلد الذى سبق الدنيا كلها بموسيقاه فى المعابد الفرعونية.
فى كل احتفال بثورة 23 يوليو، نجدد أنفسنا، نحتفل بالفن الأصيل.. فماذا صنع أبناء هذا الجيل لثورة 30 يونيو التى أنقذت البلاد والعباد من أنياب ومخالب اخوان الشياطين فى الداخل والخارج؟!.. ولا نملك إلا أن نقول:
أحلف بسماها وبترابها
أحلف بدروبها وأبوابها
أحلف بالقمح وبالمصنع
بولادى بأيامى الجاية
ما تغيب الشمس العربية
طول ما انا عايش فوق الدنيا.