هم المتسامحون الذين يغتابهم الناس فيغفرون لهم، ويتسامون عن الصغائر، هم الذين يشتمهم الشتامون ويقذفهم القاذفون ويلعنهم اللاعنون.. ثم هم لا يأبهون ولا يهتمون، فقط يتسامحون ويعرضون، أرى أن بابا جديدا للصدقة قد عرف طريق الكثير من المصريين فى أعقاب فترة الضياع الأخلاقى التى عاصرت الثورة وتوابعها، حيث انفلت عيار الأخلاق واختلط الحابل بالنابل وصارت الأمور حيص بيص.
هنا بدأ الجميع يشتم الجميع وبدأت ثقافة التخوين والتكفير والخوض فى أعراض الناس بالباطل، هنا نحن أمام طريقين.. الأول أن نبدأ فى تفعيل سياسة الردح والرد الذى يقودنا إلى الفجور والخصومة التى لا نهاية لها.. الثانى أن نترفع عن الصغائر ونسمو بأنفسنا ونذهب معا إلى بحبوحة التسامح والتجرد من أمراض النفس وعبادة الذات، إننا نعيش فى عالم يضم عوالم أخرى منبثقة وهذه الأخرى يتفرع منها تفريعات شتى، فمن وسائل الاتصال التقليدية إلى وسائل التواصل الإعلامى والاجتماعى الحديثة، أصبح من اليسير أن يجلس أحدهم على مقهى يدخن النارجيلة ويبدأ فى خطة تنظيرية حول كل المسائل والأمور بدءا من العلاقات الدولية إلى العلاقات الدونية، وهناك خطط كتائب الشيطان الإلكترونية التى تبدأ فى شيطنة الرموز أو تحويل الشياطين إلى ملائكة، ومن المؤسف أن أحدا لم ينج من القدح أو الذم فاعلا أو مفعولا، لقد تابعنا خلال السنوات الماضية الكثير من الحملات الحقيرة التى لم تستثن أحدا من رموز الوطن، سياسيين وتنفيذيين وإعلاميين ومثقفين ورجال دين وكل فئات المجتمع، لم ينج أحد من محرقة أهل الشر والباطل والجهل والجهالة، فماذا نفعل تجاه تلك الظاهرة؟
يبدو أن حل الصدقة هو الحل الأمثل، فان تتصدق بعرضك لله جل فى علاه مخلصا متجردا قويا غير آبه بأفعال وأقوال هؤلاء المرتزقة ناهشى أعراض الناس هو الحل الاختيارى الذى يعبر عن سمو حقيقى وفهم عميق لنفوس البشر، لكن يبدو أن مصطلح التصدق بالعرض أو جزء منه غريبا وعجيبا وربما مستنكرا من البعض لكن بقليل من التدبر والتفكر سنجد أن تسامحك مع من تجاوز فى حقك وحط فى عرضك هو بمثابة صدقة، فأنت تصدقت بعرضك عندما تسامحت وعندما بررت أن تسمو بنفسك عن الصغائر.
لكن إذا كان هذا يتماشى مع الأفراد والأشخاص، فهل يمكن أن ينسحب أيضا على الدول؟!
بيد أن مصر تتعرض كثيرا إلى من يطعن فيها بين الحين والحين وهذا الطاعن إما دولة أو جماعة أو مؤسسة، فهل يمكن لمصر أن تتصدق بجزء من عرضها متسامحة شامخة أمام الصغائر؟!
الإجابة الحاسمة الواضحة «لا» لم ولن تتسامح مصر فيمن يتجاوز فى حقها مطلقا، بيد أن الأمر لا يبدو مستساغا بشكل قاطع حتى بالنسبة لى على المستوى الشخصي، فرغم أن مصر أكبر وأرقى وأعمق إلا أنها لا تفرط فى حق من حقوقها كبر أو صغر، لأن مصر الدولة والوطن والشعب ينظرون إلى الأمر على أنه ليس من صلاحياتهم جميعا، لذلك تجد رئيس مصر يتسامح دائما فى حقوقه الشخصية، أما حقوق مصر فخط أحمر واضح لا لَبْس فيه، ومن لا يجيد تمييز الألوان لا يلومن إلا نفسه.