>> لا يعرف الكثيرون من شبابنا شيئا عن ثورة 23 يوليو 1952 إلا من خلال الأفلام التي تعرض في هذه المناسبة مثل «رد قلبي» فالثورة هي التي جعلت ارتباط انجي ابنة الأمير ممكنا من علي ابن الجنايني الريس عبدالواحد بمباركة من سليمان أحد الضباط الأحرار.. وهي التي غيرت حياة «البرنس شوكت» في فيلم «الأيدي الناعمة» الذي يعرض في عيد العمال حيث ذللت الفوارق بين الطبقات وجعلته يصاحب حمودة «صلاح ذوالفقار» الحاصل علي الدكتوراة في «حتي» ويستمع إلي ابن بائع البسبوسة الذي التحق بالخارجية واتفق مع خطيبته بنت الأسرة العريقة علي بناء بيتهما «بطوبة من الذهب هي حبهما وطوبة فضة هي كفاحهما المشترك»!!
72 عاما مرت علي الثورة التي أعلنت 6 مبادئ وأهداف تسعي لتحقيقها.. ثلاثة منها تمثل القضاء علي الاستعمار وأعوانه وعلي الإقطاع وعلي سيطرة رأس المال علي الحكم وثلاثة تسعي لاقامتها هي إقامة جيش وطني قوي وعدالة اجتماعية وحياة ديمقراطية سليمة.. تحققت بالفعل خمسة من المبادئ والأهداف بشكل كامل.. وتبقي الهدف الأخير وهو إقامة حياة ديمقراطية سليمة.. وكانت الأسباب عديدة واختلف عليها المحللون والسياسيون والمفكرون.. فهناك من أرجع ذلك لفساد أحزاب ما قبل الثورة ولتدخلات وتهديدات خارجية.. وآخرون يرون إن الضباط الأحرار رفضوا الديمقراطية وسيطروا علي الحكم وأداروا البلاد بديكتاتورية!!
رغم كل الخلافات والاختلافات في الرؤي.. فمن المؤكد ان ثورة يوليو لم تغير وجه مصر والمنطقة العربية والشرق الأوسط فقط وإنما امتد تأثيرها لكل القارات وساهمت في حركات التحرر من الاستعمار في العالم الثالث من دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.. وألهم نجاح الضباط الاحرار وزعامة جمال عبدالناصر جميع الأحرار علي وجه الكرة الأرضية من مانديلا إلي جيفارا.. وهذا الدور المصري إلي جانب تحقيق نسب نمو اقتصادي مرتفعة في الخطة الخمسية الأولي ودخول البلاد إلي عالم التصنيع الخفيف والثقيل مع الزراعة.. وبناء جيش قوي هو ما أقلق الدول الكبري والإقليمية فتم التآمر لضرب مصر وإعادتها ضعيفة.. كما حدث في عام 1840 عندما تحالفت أوروبا لضرب محمد علي الذي أراد بناء دولة قوية حديثة.. فتكرر نفس السيناريو مع عبدالناصر.. ويتكرر الآن لضرب التجربة المصرية بعد ثورتي يناير و30 يونيو.
توجد عند القوي العظمي في كل عصر.. عقيدة راسخة بأن مصر لابد ان تظل ضعيفة.. يقولون انها يجب ان تكون مريضة ومحتاجة لكننا لا نريدها تنهار أو تموت.. وهذا من فجر التاريخ وتكرر مع كل الامبراطوريات.. فهم لن يسمحوا لهذا البلد بالتقدم والنهوض وسيسعون لتفكيك شعبه.
وتوجد العديد من جوانب المقارنة بين ما حدث من محاولة ضرب واجهاض ثورة 23 يوليو وبين ما تمر به مصر الآن من تحديات داخلية وخارجية تصل إلي حد المؤامرات ضد الشعب وصموده وتضحياته حيث يتعرض لشائعات ومحاولة زعزعة الثقة في نفسه وفي جيشه وفي قيادته.. وهو ما يجب علينا أن نعي له جيداً ونتعلم من دروس التاريخ ولا نسمح لأي قوة ان تفرق الشعب وتغرقه في خلافات ومهاترات وفساد لتبعدهم عن الوقوف صفاً واحداً كعادتهم أمام أي خطر!!
كانت ثورة يوليو بيضاء ولم تكن دموية مثل أغلب الثورات بما فيها الثورة الفرنسية.. وحررت مصر من الاستعمار الإنجليزي وألغت الملكية ومعها توريث الحكم وأممت قناة السويس وبنت السد العالي وعشرات من القلاع الصناعية وأنهت الاقطاع وأكدت مجانية التعليم وأنصفت العمال والفلاحين وأعطت الأولوية للعدالة الاجتماعية وانحازت للبسطاء وحافظت علي الطبقة الوسطي رمانة ميزان المجتمع.. وأعادت للظهور «الحلم العربي» وتحقيق الوحدة من المحيط إلي الخليج وساهمت في حركة عدم الانحياز والحياد الايجابي.. وتحولت القاهرة إلي عاصمة لاحتضان كل الباحثين عن الحرية من أبناء شعوب العالم الثالث!!
بالتأكيد.. كانت هناك أخطاء في تجربة ثورة يوليو وزعيمها جمال عبدالناصر.. ولابد من الاعتراف بذلك ومن أهمها هزيمة يونيو 1967 وعدم إعطاء الحرية لإقامة الأحزاب والتعبير عن الرأي الآخر.
انتهت تجربة عبدالناصر بحلوها ومرها.. ولسنا بصدد محاكمة عصره ولكن علينا دراسة التجربة في زمانها وظروفها المحلية والإقليمية والدولية ووفقا لمجريات هذا الوقت.. وذلك للاستفادة من الدروس والعبر التي نستخرجها ونصل إليها حتي نتجنب ومعنا الأجيال القادمة الوقوع في نفس الأخطاء ولا نكررها!!
سيظل جمال عبدالناصر أحد أهم زعماء مصر والعرب وأفريقيا والعالم.. وكثيرا من الدول تعرف نضاله وقيمته وقدره وله شوارع باسمه فيها.. وكل الأحرار علي الكرة الأرضية يعرفونه من الجزائر وغانا وجنوب أفريقيا إلي إندونيسيا والهند وكوبا وبوليفيا.. وعلينا أن نفخر بكل زعماء ورؤساء مصر الذين أدوا واجبهم ولا نهاجمهم.. ننتقد سياساتهم وقراراتهم ولكن لا نحولهم إلي أشرار.. ويكفي ناصر إنه قاد ثورة حررت الوطن من الاستعمار البريطاني بعد 74 عاما من الاحتلال.. ويكفي السادات انه صاحب قرار حرب أكتوبر.. فلا داعي للمقاونة ولا التعصب لأحدهما ضد الآخر فكلاهما أدي دوره وكان وطنيا مخلصا!!
مطلوب أن نقوم بتعريف الأجيال الجديدة بالضباط الأحرار ومجلس قيادة ثورة يوليو فهؤلاء خرجوا يحملون أرواحهم علي أياديهم وكان مصيرهم الموت لو فشلوا يوم 23 يوليو.. ويجب أن يعرف الجميع دور كل بطل منهم.
لجنة محايدة لكتابة التاريخ
>> مازال هناك من يحكمون علي الأحداث التاريخية وكأنها وقعت اليوم.. ويحاكمون شخصياتهم بمعايير العصر الحالي رغم تغير الزمن وتبدل الظروف والعلاقات الدولية!!
هؤلاء يتعاملون مع التاريخ وفقا لأهوائهم.. ويرتدون ثوب القاضي ويجلسون علي المنصة يصدرون الأحكام دون أدلة ثابتة أو وقائع مدروسة.. ويتهمون ويترافعون ويدينون متخذي القرارات أو يبرئونهم بلا سند قانوني أو إنساني وبلا موضوعية!!
وتعتبر ثورة يوليو 1952 التي قام بها الضباط الأحرار بزعامة جمال عبدالناصر.. من أكثر الأحداث التي وقعت في العصر الحديث ولم يتم تناولها بموضوعية باستثناء عدد من الدراسات الأكاديمية وكتابات لمؤرخين محايدين تصدوا لتجربة يوليو وفترة حكم ناصر وذكروا الايجابيات والسلبيات.. وبخلاف ذلك فأغلب من تصدوا «لها وله» إما كانوا مؤيدين علي طول الخط أو مهاجمين بقسوة.. والفريق الأول جعل ثورة يوليو مسئولة عن كل شيء جميل في حياة المصريين ووصلوا أحيانا في وصفهم لعبدالناصر إلي ما يقارب «الملائكة».. ومن يعارضونهم ألقوا علي الثورة بمسئولية كل الهزائم والاخفاقات وكل المشاكل واتهموا الرجل بأنه سبب ذلك وكأنه «شيطان».
>> قلنا أكثر من مرة إننا نحتاج لتشكيل لجنة محايدة من الأكاديميين المتخصصين والمفكرين والمؤرخين والسياسيين لكتابة تاريخ مصر الحديث بتجرد وشفافية من عهد محمد علي مروراً بثورات المصريين ضد الفرنسيين والانجليز وثورة عرابي وثورة 1919 ثم ثورة يولـــيو وصـــولاً إلي ثورتي يناير و30 يونيو.. وان تعتمد هذه اللجنة علي الوثائق المفرج عنها في مصر ودول العالم خاصة الوثائق البريطانية والأمريكية والفرنسية لمعرفة تاريخنا الحقيقي.. وان تلتقي هذه اللجنة مع الأشخاص الأحياء من المعاصرين لثورة يوليو التي نحتفل بمرور 72 عاما علي قيامها ولا يعرف أغلب الشباب الحالي شيئا عنها سوي كتابات مشوهة ومذكرات إما مؤيدة أو رافضة فكيف ستصل الحقيقة إلي الأجيال القادمة إذا لم نكتسب تاريخا موثقا يتسم بالموضوعية ولا يخضع للأهواء؟!