تراكمات الماضى.. تطفو على السطح
الأزمة الأخلاقية، لم تكن وليدة اليوم، بل هى نتاج تراكمات على مدار عقود طويلة، تصل إلى أكثر من 50 عاماً، بسبب سياسات الانفتاح غير المحسوب، والممارسات السيئة، والإهمال لبناء الإنسان والحفاظ على الهوية والشخصية المصرية، وتفشى التسطح والانتهازية، والأنانية، وغياب الدور الحقيقى للمؤسسات الدينية وانسحابها فى فترات معينة وإفساح الساحة أمام جماعات التطرف والتشدد والأفكار الظلامية التى لا تمت للدين بصلة، والتى نجحت فى نشر التعصب الأعمى والرأى الواحد، والفتاوى الباطلة، واعتلاء الجهلاء المنابر، وانتشار الدين المظهرى دون الثراء الديني، والتعمق، حتى وصلت هذه الجماعات إلى سدة الحكم فى مصر فى ظل غياب الوعى بخطورتها، أو مقاومة أفكارها والتصدى لها.
لم ينجح المسئولون فى استثمار روح أكتوبر وحالة التجلى الوطني، والزخم.. ولم نستطع توظيف هذه الطاقة الوطنية المتدفقة، ولكن، تحولت الأمور إلى انفتاح عشوائي، وتفشى السلوكيات الاستهلاكية، والانتهازية والأنانية المفعمة بفساد مسكوت عنه، تحت دعاوى الفهلوة والشطارة، وانتشار جماعات المصالح وشبكات الفساد، التى وصلت إلى المتاجرة فى غذاء المصريين، كما أن تهاوى التعليم ورجوعه للخلف، ساهم فى إضعاف البناء الإنسانى والمعرفى والسلوكى كما أن الأسرة تفرغت، لا تمت بصلة لقواعد التربية السليمة، بل وصلت إلى السباق المحموم فى المادية، والمظهرية والكسب بأى أسلوب ثم ساهمت قضية الانفجار السكانى فى إثقال كاهل الأسر فى تربية الأبناء بطريقة سيئة، فى ظل متطلبات لا حصر لها، مع غياب القدرة وهو الأمر الذى سمح بعمالة الأطفال، والنزول المبكر للشارع، ثم الغزو الثقافى الغريب والشاذ الذى لا يتسق مع قيمنا وقواعدنا الأخلاقية، والسلوكية ومنظومة العادات والتقاليد، ثم تفشى ثقافة الأزمات والمعاناة العميقة، على مدار 50 عاماً، مع غياب الرؤى وإرادة الإصلاح والبناء والتنمية والسلبية فى مواجهة المشاكل المتراكمة تحت مسمى الحفاظ على استقرار هش ليس هذا فحسب، تعانق واختلط العام بالخاص، وبدأت حملات ضارية فى التعدى على حقوق الدولة ونهب وتسقيع الأراضي، وسرقة المال العام، والفن الردئ، والغناء السطحي، واختلال النظرة فى التعامل مع الشريف والمكافح والقابض على جمر الحلال ليتحول إلى «خايب» أو فاشل، أو موضة قديمة، ثم جاءت أحداث يناير 2011 لنستيقظ على الفاجعة حيث ظهر القبح فى صورته الرديئة، وأظهرت الفوضى والانفلات حجم الكارثة الأخلاقية ليس فى التدمير والحرق، والتطاول والاعتداء على مؤسسات الدولة أو حتى فى قبول البعض تنفيذ أجندات خارجية لقوى الشر للإضرار بالوطن، فى ظل قصور الدولة قبل الأحداث فى امتلاك رؤية أو استراتيجية للوعي، والبناء الفكرى والثقافى الذى يتسق مع جوهر الشخصية المصرية وأصولها وتقاليدها وأخلاقياتها ومرجعياتها وجذورها، فقد غاب هذا البعد تماماً، وانتشرت ثقافة وفنون التدنى والابتذال والإساءة للوطن، فى عرض القبح، والتشهير بسمعته، لصالح أجندات وتمويلات تعرف ماذا تريد، حتى وصلت حالة الاحتقان والصدام إلى ذروتها فى فوضى يناير 2011 وبحسابات بسيطة، تستطيع أن ترصد أو تحسب، الطفل الذى كان عمره 13 عاماً فى يناير 2011، كم عمره الآن، عمره هو نفس عمر البلوجر التى خرجت علينا مثل كثيرين، وغيرها من المهوسين والباحثين عن المال بأى غاية أو وسيلة، هم الشباب «المفضوح» من قبل فنانين متهورين لا أخلاق ولا قيم ولا مبادئ لديهم، فهذا الشاب الذى يجرى أو يحاول التصوير مع فنان يملأ جسده بالوشم، ويرتدى «حلق»، أو مطرب كل ما يهمه أرصدة وسيارات فارهة وضرب منظومة الأخلاق فى مقتل، لذلك هؤلاء الشباب الذين يلهثون خلف هؤلاء المطربين، لا يعرفون قيماً مصرية أصيلة، بل تجاوز البعض الخطوط الحمراء، لمجتمعات مثل الصعيد أو حتى الأحياء الشعبية، فما نراه من البعض من غياب ثقافة بر الوالدين هو نتاج سنوات الفوضى والعشوائية والانفلات الأخلاقى والانتهازية، وانتشار المخدرات بشكل يدعونا لدق ناقوس الخطر، وأيضاً «المسئول الفاسد» الذى لا يشبع بداية من موظف بسيط إلى موظف كبير، غاب عنه الضمير، والوعى الدينى والأخلاقي، والتربية الصحيحة والسليمة، فى ظل هجوم ضار من «السوشيال ميديا»، والتطور التكنولوجى المذهل الذى أصبح الإنسان أسير جهاز صغير «الموبايل»، يحوى كافة صنوف الثقافة، والسلوكيات، والابتذال، والتدني، والعري، ليسيطر على عقول الأبناء، ويقوم بتشكيل وبناء شخصيتهم، فمن منا لا يقاتل أو يحاول إقناع الأبناء، بالتوقف عن النظر والتركيز مع الموبايل و»الأيباد»، والكمبيوتر، فى عوالم الإنترنت الخفية «المسئول الفاسد» الذى يصر على الحرام والسلوك المنحرف، ولديه ما يكفيه، هل فكر فى أن الكفن ليس له جيوب هل فكر فى سمعته وسمعة عائلته وأسرته وأبنائه، فهل يحتاج رئيس شركة قابضة أو موظف كبير أن يمد يده فى الحلال وهو يعيش فى «فيلا» فى كومباوند، ولديه أسطول سيارات.. صدقوني، الفساد ليس له علاقة بالفقر والثراء أو الغني، إنه محصلة تربية وبناء خاطئ، أسرياً، وتربوياً وتعليمياً ودينياً وأخلاقياً، وما الذى يدفع طالبة فى عمر الزهور للرقص بطريقة مبتذلة، أمام جموع غفيرة من الناس وأين الخجل والتربية، أم أن الغزو الثقافى الممنهج، والمتعمد والمدفوع، نال من هؤلاء وفرض غطاء مختلفاً، يهدد أخلاقياتنا.
لا أستطيع تكرار حلول نمطية مثل دور الأسرة، أو المدرسة أو المسجد والكنيسة، أو الإعلام والثقافة، فالأمر معقد للغاية، ويحتاج إلى مشروع دولة متكامل، ولعل ما قاله الدكتور أسامة الأزهرى وزير الأوقاف فى الحكومة الجديدة، بداية إدراك الخطر وانتباه الدولة لهذا الميراث المعقد والذى تحدث عن ٤ ملفات يتم الإعداد لتنفيذها أولها محاربة كافة صور التطرف، ويهمنى أيضاً هو الحديث عن رصد السلوكيات التى تؤدى إلى تراجع شديد فى الأخلاق ومحاربة الإدمان والانتحار والتنمر والتحرش وغيرها من المظاهر المقلقة فى مجتمعنا، والملف الثالث هو إعادة بناء الشخصية المصرية الوطنية من منطلق ديني، الحقيقة أن هذا كلام جميل ومحترم ننتظر من الدكتور الأزهرى وضع الآليات والتركيز على بناء الضمير الإنسانى على أساس دينى وأخلاقى لأنه بمثابة حائط الصد الذى يحول دون وقوع الظواهر السلبية، وحسناً فعلت الحكومة الجديدة بتكليف الدكتور خالد عبدالغفار نائب رئيس الوزراء للتنمية البشرية، وهو قائم على مجموعة من الوزارات ذات الصلة بالبعد الأخلاقى وبناء الإنسان ليس صحياً وتعليمياً فحسب ولكن أيضاً البناء الأخلاقى والوطني، وبناء الشخصية المصرية علينا أن نبدأ سريعاً، وقبل أن نبدأ علينا مواجهة الأنانية والانتهازية و»الاناماليه»، والشللية والهوي، وضرب جماعات المصالح والفساد، بقسوة لأنها ستكون أمراً إيجابياً أمام الشباب الذين نعلمهم.
تحيا مصر