قضيت جانباً من نهار يوم الجمعة الماضى مستمتعاً بمتابعة البث التليفزيونى المباشر من «لاهاي» بهولندا لجلسة محكمة العدل الدولية، أعلى جهاز قضائى بالأمم المتحدة، لإعلان رأيها فى «التبعات القانونية والقضائية المترتبة على سياسات وممارسات سلطة الاحتلال الإسرائيلى فى الأراضى الفلسطينية، وما تفرضه من التزامات على الدول والمنظمات الدولية».
الموضوع بدأ فى التاسع عشر من يناير 2023، عندما أرسلت الجمعية العامة للأمم المتحدة طلباً للمحكمة بدراسة هذه القضية وموافاة الجمعية العامة برأيها القانونى الاستشارى فيها.
لقد قدم القاضى اللبنانى الدولى نواف سلام رئيس محكمة العدل الدولية عرضاً قانونياً بديعاً لما انتهت إليه المحكمة بأغلبية الآراء من أعضاء هيئتها، لم يترك شاردة ولا واردة تتعلق بالقضية إلا وقدم رأى المحكمة والقانون الدولى فيها بعبارات واضحة وحاسمة لا تحتمل أى تأويل.
ورغم أن رئيس المحكمة أعلن فى مقدمة رأيها، أن هذا الرأى «استشاري»، وأنه لا يتعرض لما يجرى فى غزة منذ «طوفان الأقصي» فى السابع من أكتوبر الماضى حتى الآن، إلا أن ما عرضه بعد ذلك حمل صيغة «الإلزام»، كما تعرض لكل عناصر ما يجرى فى غزة فى الشهور العشرة الأخيرة، من خلال بحث جذوره الممتدة قبل هذا التاريخ.
لذلك جاء الرأى فى صورة «وثيقة قانونية تاريخية» تمنيت يومها لو تابعها الملايين فى العالم العربى والعالم الإسلامى والمجتمع الدولى كله، كما تمنيت لو نشرتها كل الصحف بنصها الكامل كمرجعية لكل الباحثين فى هذا المجال، وهو ما لم يتحقق للأسف.
سأقدم هنا ملخصاً لأهم ما تضمنه رأى المحكمة من نقاط وما أكدته من حقائق تستند للقانون الدولى والقانون الإنساني.
> الأراضى الفلسطينية المحتلة تمثل «وحدة جغرافية متصلة» وذات سيادة وتتألف من الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، ويجب احترامها.
> الشعب الفلسطينى معترف به بمقتضى اتفاقيات «أوسلو» بين إسرائيل وممثلى الشعب الفلسطيني، وله الحق فى تقرير مصيره.
> الاستيطان غير قانوني، ويجب إزالة المستوطنات.
> إخلاء السكان الفلسطينيين بالقوة من أراضيهم ومساكنهم لإحلال المستوطنين الإسرائيليين محلهم يمثل «تهجيراً قسرياً» يتعارض مع حقوق السكان فى الأراضى تحت الاحتلال بموجب القانون الدولى والاتفاقيات ذات الصلة.
> واجبات إسرائيل فى الأراضى المحتلة تخضع لمعاهدة 1959 بشأن «معاملة المدنيين فى زمن الحرب».
> إسرائيل مطالبة بحكم القانون الدولى بتقديم «تعويضات» للفلسطينيين عن الأضرار الناجمة عن احتلالها أراضيهم.
> سلطة الاحتلال «ملزمة» بالحرص على إيصال المياه والغذاء لسكان جميع المناطق الواقعة تحت احتلالها.
> الخلاصة: «استمرار وجود إسرائيل فى الأراضى الفلسطينية غير قانوني، وهى (ملزمة) بإنهاء هذا الوجود فى أسرع وقت ممكن».
وانتقلت المحكمة، فى رأيها الاستشارى إلى مسئولية المجتمع الدولي، بدوله ومنظماته تجاه هذا الوجود غير القانونى لإسرائيل فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، وحددت هذه المسئولية فى ثلاثة التزامات على النحو التالي:
> ترى المحكمة، أن «جميع» الدول «ملزمة» بعدم الاعتراف بشرعية الوضع الناشئ عن الوجود غير القانونى وغير الشرعى لإسرائيل فى الأراضى الفلسطينية المحتلة.. و»عدم تقديم العون أو المساعدة» فى الحفاظ على استمرار هذا الوضع.
> ترى المحكمة أن المنظمات الدولية بما فيها الأمم المتحدة «ملزمة» بعدم الاعتراف بشرعية الوضع الناشئ عن هذا الوجود.
> وأخيراً، ترى المحكمة أنه ينبغى للأمم المتحدة، خاصة جمعيتها العامة التى طلبت هذه الاستشارة القانونية، النظر فى «الإجراءات الإضافية اللازمة» لوضع حد «فى أسرع وقت ممكن» للوجود غير القانونى لقوات الاحتلال الإسرائيلى فى الأراضى الفلسطينية.
هكذا استطاعت هيئة المحكمة، وهى تقول إن رأيها «استشاري» أن تقول أيضاً، وفى نفس الوقت إن ما يحمله هو «التزامات قانونية»، ليس فقط على إسرائيل بإنهاء احتلالها فى أسرع وقت ممكن، بل على المجتمع الدولي، بدوله ومنظماته لأن يمتنع عن تقديم أى مساعدة لإسرائيل تمكنها من استمرار هذا الاحتلال.
هكذا استطاعت هيئة المحكمة أيضاً، وهى تقول إن رأيها هذا لا يتعرض لما يجرى فى غزة منذ السابع من أكتوبر الماضى حتى الآن، أن تنخرط ـ فى ذات الوقت ـ فى دراسة وتقديم الرأى القانونى فى أهم القضايا التى تصدرت اهتمام العالم فى هذه الشهور، ولكن من خلال الجذور، مثل قضايا التهجير القسرى للسكان، ومسئولية سلطة الاحتلال عن حماية المدنيين فى زمن الحرب، وضرورة الالتزام بإيصال المساعدات الغذائية وغيرها للسكان فى الأراضى المحتلة.
القضية الوحيدة التى لم تسجلها هيئة المحكمة فى هذا الرأى وتتعلق بما يجرى فى غزة، هى قضية «الإبادة الجماعية» التى تقوم بها قوات الاحتلال الإسرائيلى للشعب الفلسطينى فى غزة، وكان هذا طبيعياً نظراً لأن هذه القضية معروضة بالفعل أمام المحكمة فى الدعوى التى أقامتها دولة جنوب أفريقيا، ولم تصل فيها إلى حكم بعد.
طبعاً سنجد من يقول ـ عن حق ـ إن رأى المحكمة «استشاري»، وهذا يضعفه.
وأن ما ورد فى هذا الرأي، سبق أن تضمنته عشرات القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة بهيئتها الرئيسيتين.. مجلس الأمن والجمعية العامة ولم تلتزم بها إسرائيل.
وأن أقرب مثال لذلك قرار مجلس الأمن الأخير الذى قدمت أمريكا نفسها مشروعه بالاتفاق مع إسرائيل لوقف إطلاق النار فى غزة وتبادل الأسرى والمحتجزين بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، ورغم مرور شهر على صدوره بإجماع أصوات أعضاء مجلس الأمن عدا روسيا التى امتنعت عن التصويت، فإن أمريكا عجزت عن تنفيذه رغم أنها صاحبة مشروعه.
وأن.. وأن.. وأن.
لكن، رغم كل «الوأننات»، فهذا الرأى الاستشارى لمحكمة العدل الدولية يمثل خطوة مهمة على الطريق.. طريق اقتلاع الاحتلال الإسرائيلى من الأراضى الفلسطينية، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة فى حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
وإسرائيل تدرك ذلك جيداً، ولذلك تتصرف قيادتها بجنون لاستباق الأحداث.. تريد إبادة الشعب الفلسطيني، وضم أراضيه المحتلة إليها، وتسارع باستصدار قرار من الكنيست يرفض إقامة الدولة الفلسطينية، وكان تعليق رئيس وزرائها على رأى محكمة العدل الدولية أنه «خاطئ» وأن هذه أرض إسرائيل.
هى تعمل على الأرض.. والعالم يتجه إلى اقتلاع احتلالها من الجذور.. والسباق لن يتوقف إلا بانتصار الحق.
لقطة الختام، من الاتحاد الأوروبى الذى اجتمع وزراء خارجية أعضائه أمس، ورأى المحكمة أحد بنود جدول أعمالهم.
قال جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للسياسة الخارجية للاتحاد قبل الاجتماع تعليقاً على رأى المحكمة:
١- رغم أنها فتوى استشارية، إلا أنها جاءت من أعلى هيئة قانونية فى الأمم المتحدة.
٢- الفتوى تعبر بوضوح عن موقف الاتحاد الأوروبى الذى يرى عدم شرعية احتلال الأراضى الفلسطينية ويجب إنهاؤه وعدم الاستمرار فى بناء المستوطنات.
٣- ندعم المحكمة وسنناقش فى الاجتماع ما يمكننا عمله بخلاف الكلام.
العالم يتغير.. والحصار الإسرائيلى الذى كان لغزة يتحول خطوة خطوة إلى حصار عالمى لإسرائيل.