قال د.محمود السعيد عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، إن هناك تفاؤل كبيراً بالمستقبل القريب للاقتصاد المصري، خاصة أن طبيعة الأزمة ومسبباتها خارجية.
أضاف، فى حوار مع «الجمهورية»، أن الرئيس عبدالفتاح السيسي، عالج التشوه التاريخي فى الاقتصاد المصري، وحوله من اقتصاد ريعى قائم على مصادر تتأثر بعوامل خارجية إلى اقتصاد إنتاجى مستدام ومتنوع.. وإلى نص الحوار:
> يرى البعض أن الاقتصاد المصرى كان على شفا الانهيار قبل عام 2014 فما هو رأيك؟
>> مع مرور الدولة بثورتين فى 2011 و2013 وما تبعها من تأثيرات بالغة الخطورة على الاقتصاد المصرى فى هذا الوقت كان يمكن أن ينزلق بسببها إلى مستويات انهيار أبعد من التصور، ومن ناحية أخرى فإنه لا يخفى على أحد أن هيكل الاقتصاد المصرى ولمدة 60 سنة ظل هيكلا استهلاكيا وليس إنتاجيا، بالإضافة إلى أنه كان يعانى من تشوهات هيكلية خطيرة جدا منها منظومة الدعم، حيث كان الدعم يذهب لمن لا يستحقه لأن الدعم للأسف الشديد كان ينصب على بعض المنتجات التى يستفيد منها الغنى والفقير على قدم المساواة، مثل دعم المنتجات البترولية وغيرها، وكان هذا يمثل تحديا كبيرا جدا لم يجرؤ أحد من الحكومات السابقة على التدخل الحقيقى لعلاجها.
مع تولى الرئيس عبدالفتاح السيسى الحكم فى 2014 بعد فترة عدم استقرار شهدتها الدولة المصرية أثرت بشكل كبير جدا على الاقتصاد المصري، وبدأ الرئيس السيسى فى 2016 تنفيذ منظومة الإصلاح الاقتصادى الحقيقي، وعلى رأسها علاج التشوه التاريخى فى منظومة الدعم، وهذه الخطة كانت تسير حتى عام 2019 على خطى ممتازة جدا استوجبت إشادات دولية كبيرة، وبالفعل بدأنا نشعر بتحسن فى مؤشرات الاقتصاد الكلى فى أقل من 3 سنوات من بدء التنفيذ مثل معدل النمو الاقتصادي، ومعدلات البطالة، وبدأت منظومة الدعم فى التحسن، بمعنى أن يذهب الدعم لمن يستحقه، واقتربت معدلات النمو الاقتصادى من المستهدف والتى ينبغى أن تكون أعلى بمرتين أو 3 من النمو السكاني، وبدأ يصل فى 2019 من 8٪ وانخفض معدل البطالة من 11٪ إلى 7٪ فقط وأصبح الاقتصاد المصرى وجهة جاذبة للاستثمار الأجنبي، إضافة إلى تحويله من « اقتصاد ريعى «، إلى « اقتصاد إنتاجى «.
من أهم المشروعات التى جرى تنفيذها كان التوجه للمشروعات التنموية الخاصة بالبنية التحتية لأن أهم شروط تنشيط الاستثمار فى أى دولة، فلابد أن تكون البنية التحتية لهذه الدولة مؤهلة، لذلك الدولة المصرية عملت على إصلاح البنية التحتية المتهالكة، وتحسين جودة الطرق، وبناء مدن جديدة، وغيرها من المشروعات التنموية الكبري، بهدف جذب الاستثمارات، وتقليل البطالة فى نفس الوقت لأن هذه المشروعات التنموية الكبرى تتطلب عمالة كبيرة وتساهم فى خلق فرص عمل جديدة وبالتالى تنعكس فى تقليل البطالة، وكان على الدولة المصرية نفسها كقطاع حكومى أن تتولى تنفيذ هذه المشروعات لأن لا يوجد قطاع خاص يمكنه الاستثمار فى هذه المشروعات الكبرى نظرا لأنها مشروعات بطبيعتها غير ربحية، والعائد منها عائد على المدى الطويل وليس على المدى القصير.
> ما التحديات التى واجهت هذا الإصلاح؟
>> للأسف الشديد تزامنت محاولات الإصلاح الاقتصادى مع تحديات خارجية كبيرة، مثل الصدمات الخارجية كأزمة كورونا والحرب الروسية – الأوكرانية، التى أثرت بشكل كبير على الاقتصاد المصرى وزادت من صعوبة تنفيذ الإصلاحات، وذلك نظرا للتشوه فى الهيكل الاقتصادى المصرى وأنه ليس إنتاجياً فى الأصل، وهى معاناة تاريخية للاقتصاد المصرى يحتاج لخطط طويلة الأجل كان يجرى تنفيذها بالفعل خلال خطط الإصلاح، لذلك بمجرد حدوث صدمات خارجية متوالية مثل أزمة كورونا وبعدها الحرب الروسية – الأوكرانية، ثم الحرب فى غزة، أدى كل هذا إلى تعرض الدولة المصرية واقتصادها لضربات موجعة، وفى الحقيقة فإنه لولا الإصلاح الاقتصادى والدفعة التى تلقاها الاقتصاد بموجب خطة الإصلاح قبل هذه الأحداث التى ليس لنا دخل فى وقوعها لكان الوضع بالغ السوء بأكثر من التصور، وصدقا فإن هذه الدفعة التى بدأناها فى 2016 حافظت على مسار واستمرارية الدولة المصرية خلال الفترات الصعبة الحالية التى نمر بها، ونشير هنا إلى أن مصر كانت من الدول القليلة على مستوى العالم التى حققت معدل نمو إيجابياً فى عام 2020، وهذا الأمر كان محصلة لخطة الاصطلاح الاقتصادى التى بدأت فى عام 2016.
> لماذا أثرت هذه الصدمات الخارجية على الاقتصاد المصرى بهذه القوة؟
>> واجهت الاقتصاد المصرى تحديات كبيرة نتيجة لهذه الأحداث، خاصة أنها أثرت على المصادر الرئيسية للدخل القومى والسياحة على سبيل المثال تأثرت بشكل كبير بسبب جائحة كورونا، مما أدى إلى خسائر كبيرة فى الإيرادات السياحية التى تعتبر مصدرًا مهماً للعملة الصعبة، وجاءت الحرب الروسية – الأوكرانية لتطيل أزمة الدخل من السياحة بما يمثله عدد السياح من هاتين الدولتين إلى مصر، وزادت أمد أزمة الدخل من السياحة مع نشوب الحرب فى غزة.
فيما يخص الدخل من قناة السويس أيضا، تأثر بشدة مع توقف حركة التجارة العالمية بسبب جائحة كورونا من النصف الثانى من 2019، ونتيجة لتعطل سلاسل الإمداد العالمية بسبب الجائحة ثم الحرب الروسية ثم الحرب الإسرائيلية والأخطار على السفن فى البحر الأحمر، كل هذا أدى إلى تراجع كبير فى المورد المهم للغاية من قناة السويس.
المصدر الثالث للدخل القومى من العملة الصعبة وهو تحويلات العاملين فى الخارج تأثر أيضا بشدة بأزمة جائحة كورونا والتى فقد كثير من العاملين فى الخارج وظائفهم أو جزءاً من دخلهم نتيجة لها، مما جعل التحويلات من الخارج تتراجع بقوة.
هذا من جانب الدخل القومى بالعملة الصعبة، أضيف إلى هذا تبعات هذه الأزمات وتأثيراتها على كلفة الاستيراد الأساسى للدولة والذى يتمثل فى الغذاء، وعلى رأسه القمح والحبوب، وكنتيجة لجائحة كورونا قامت بعض الدول باتباع نهج تقليل التصدير لتوفير أكبر قدر من المخزون الإستراتيجى لديها وبالتالى زادت أسعار الغذاء، تلا ذلك أزمة روسيا – أوكرانيا الدولتين الأكبر تصديراً للقمح إلى مصر على مستوى العالم، وهو ما رفع فاتورة الاستيراد إلى مستويات غير مسبوقة.
فى ظل انخفاض كبير فى الدخل من العملات الأجنبية، موازاة مع ارتفاع كبير فى الطلب عليها لتلبية حاجة الدولة من الواردات، تشكلت أزمة حادة نتج عنها زيادة الديون لردم هذه الفجوة واضطرت مصر إلى زيادة الاقتراض لمواجهة التحديات الاقتصادية الناتجة عن هذه الصدمات، ولذلك كان لابد من تسريع القرارات الاقتصادية الإصلاحية ومنها تحرير سعر الصرف وكان بالطبع لها تأثيرات مباشرة وسريعة على المؤشرات الاقتصادية وأهمها التضخم، لكنها قرارات إصلاحية لا مفر منها على المدى المتوسط والطويل.
> وماذا فعلت الدولة حتى لا تقع أعباء هذه الأزمة على المواطن البسيط؟
>> فى تقديرى أن أهم المشروعات الاقتصادية التى نفذتها الدولة بدءا من 2016 هى الاهتمام بالمواطنين الأكثر احتياجا؛ ومشروعات مثل مشروع «حياة كريمة»، و»تنمية القرى الأكثر فقراً« و»100 مليون صحة« وغيرها، هذه كلها تعتبر انجازا تاريخيا للاقتصاد المصرى الذى وجه اهتمامه إلى تحويل الكتلة السكانية إلى قوى إنتاجية.
> كيف تم تحويل الكتلة السكانية إلى قوة إنتاجية فى الريف؟
>> على سبيل المثال فإن مشروع حياة كريمة والمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر التى شملها تنفيذ المشروع وتحسين نمط الحياة يعنى رفع قدرة وقيمة الأيدى العاملة فى هذه المناطق ودورها الاقتصادى والإنتاجي، هذا بالإضافة إلى توسيع رقعة النشاط الاقتصادى ومده إلى مختلف ربوع الوطن بدلا من تكتله فى أماكن محددة، كما أن تحسين الحياة فى القرى والمناطق الريفية من خلال توفير الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء والصرف الصحي، يعزز من استقرار المجتمع ويساهم فى التنمية المستدامة، بالإضافة إلى خلق فرص عمل جديدة للشباب والنساء، مما يعزز من دورهم فى المجتمع من خلال المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر مما يساعد فى تقليل معدلات البطالة ودعم الاقتصاد المحلي.
مثال آخر مشروع 100 مليون صحة اعتبره مشروعا اقتصاديا على درجة عالية من الأهمية بل يفوق كونه مشروعا اجتماعياً؛ فهو استثمار فى البشر وكان من نتائجه تجميع بيانات حقيقية لعدد كبير جدا من المواطنين المصريين وشكلت قواعد بيانات مهمة للغاية يمكن بناء عليها اتخاذ القرارات اللازمة بصورة سليمة، وعلى سبيل المثال من أجل تنفيذ مشروع التأمين الصحى كان لابد من أن يكون مبنيا على أساس من البيانات الحقيقية، ولابد من التنبيه إلى أن هذه المشروعات العديدة المتعلقة بالمواطنين هى أساس دور الدول فى العالم وليس تنفيذ مشروعات اقتصادية لكن الإشراف عليها وتنظيمها، ولم تلجأ الدولة المصرية لتنفيذ مشروعات بنفسها إلا بسبب ضرورة انجازها مع إحجام القطاع الخاص فى وقت سابق عن الدخول فيها، لذلك فإن الدولة بدأت حاليا تشجع القطاع الخاص المحلى والأجنبى بكل ما يلزمه من تحفيز للقيام بدوره فى الإنتاج والاقتصاد بصفة عامة.
و أؤكد هنا على أهمية الاستثمار أياً كانت جنسيته، فلابد من الترحيب به وتوفير البيئة المرحبة والمشجعة له، وطالما كان الاستثمار الأجنبى بعيدا عن أى مهددات للأمن القومى فلابد أن يكون محل تشجيع وترحيب وتوفير كل ما يلزمه من سرعة لإنجاز مشروعاته.
> ما الخطوات التى ترى أولوية القيام بها خلال الفترة المقبلة للتعافى من تداعيات الأزمات الخارجية التى أثرت على الاقتصاد المصرى من 2019 وحتى الآن؟
>> كما ذكرت فإن الاقتصاد المصرى اقتصاد ريعى معتمد على العائد من قناة السويس والقطاع السياحى وتحويلات العاملين فى الخارج، والآن جاء الوقت لنعتمد على الاقتصاد الإنتاجى القائم على التصدير والجاذب للاستثمارات الحقيقية وليس للأسهم والسندات فقط والتى قد تتعرض للسحب فى أى وقت بوصفها أموالاً ساخنة وتؤدى لمشكلات كبري، ويأتى ذلك من خلال توطين بعض الصناعات المهمة فى مصر مثل صناعة السيارات وإعادة الصناعات التى كانت تشتهر بها مصر مثل صناعة النسيج.
السياسات الحكومية لتشجيع الاستثمار فى الفترة القادمة يجب أن تتسم بالكفاءة والسرعة وهناك أهمية كبيرة لسرعة الانتهاء من تعديل السياسة الضريبية للمشروعات الصغيرة والمتوسطة وإصدار القانون الخاص بها، هناك أهمية لسرعة التحول الهيكلى لخلق بيئة أعمال مواتية للمنافسة، وتعزيز دور القطاع الخاص ليكون قادرًا على توليد وظائف أكثر، فالتركيز على الصناعات التى تعتمد على مدخلات إنتاج محلية الصنع أصبح ضرورة وهناك أهمية كبيرة للصناعات التى تقوم بإنتاج سلع للتصدير حتى لا يتأثر الميزان التجارى وسعر صرف الجنيه المصري.
> هل ترى مشاريع مصرية فى هذا الاتجاه؟
>> كل المشاريع المصرية الكبرى تسير فى هذا الاتجاه؛ وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن مشروع المحور الاقتصادى لقناة السويس يمكن وحده أن يقوم عليه اقتصاد متكامل، حيث يشمل الإنتاج والتصدير واللوجستيات وما يشمله من خدمات للنقل والشحن وإعادة التصدير وتوطين الصناعات هذه مشروعات عملاقة يشملها محور واحد. وهناك العديد من المحاور الاقتصادية التى تشهد تركيزا لا ينتقص منه الاهتمام بمحاور أخرى فهناك مشروعات فى طريقها للإنشاء وستغير من وجهة الاقتصاد فى المستقبل القريب، فلدينا مشروعات يجرى تنفيذها حاليا فى مجالات الطاقة الجديدة والمتجددة تشمل مشروعات تعتبر الأكبر فى المنطقة، بالاضافة إلى مشروع الطاقة النووية، وكل المطلوب هو اطلاع المواطنين على هذه المشروعات لأننا بعد انتهائها ودخولها الخدمة فإننا لن نكون معرضين مستقبلاً لأى أزمات سببها عوامل خارجية.
كذلك مشروعات توفير الغذاء من توسع فى الرقعة الزراعية والتوسع فى الإنتاج الزراعي، وكذلك مشروعات الثروة الحيوانية والمزارع السمكية وغيرها والتى ستغنى عن جزء كبير جداً من فاتورة الاستيراد مستقبلاً، كذلك فإن الاهتمام بالبنية الأساسية والمشروعات الخاصة بالتقنيات والذكاء الصناعى ستمكن مصر من التواؤم مع سوق العمل المستقبل وطبيعة الاقتصاد المستقبلي.
> هل ترى أن هناك تفاؤلاً بالتوقعات المستقبلية القريبة للاقتصاد المصرى ؟
>> أعتقد أنه مع استقرار الأسعار العالمية واتجاه البنك الفيدرالى الأمريكى لتخفيض الفائدة وانتهاء الحرب الروسية – الأوكرانية والحرب فى غزة وهدوء الأوضاع فى الدول المحيطة بنا، كل هذه العوامل التى ستحدث بطبيعة الحال خلال أشهر قليلة، يمكن أن تحسن كثيراً من وضع الاقتصاد المصرى ليتم استكمال مسيرة الإصلاح، وما ينبغى على المواطن الإيمان به هو أن الأزمة الحالية هى أزمة طارئة وعابرة وأن المستقبل القريب سيكون أفضل فترات الاقتصاد المصرى ازدهارا فى تاريخه.