أخطر ما يمكن أن تواجهه أمة من الأمم هو «الوعى الزائف» ومصر الآن تمر بحالة استثنائية يمكن أن نطلق عليها «البحث عن الذات»، ودون الخوض فى تفاصيل أسباب ومسببات تلك الحالة، فإن الواقع بكل تداعياته يعكس حالة نزيف صارخة لأرصدة الوعى الجمعى فى وطن استمد قوته من مخزونه الحضارى التاريخي، بيد أن هذا المخزون أثار حالة جدلية.. هل هو مخزون ناضب أم متجدد؟ أنصار الفريق الأول الذين يصرون على المخزون الحضارى للشعب المصرى يتناقص بشدة ووصل إلى مرحلة خطيرة للغاية ويدلل أنصار هذا الفريق بأن حركة المجتمع وسلوكياته الجمعية تنذر بالخطر وتعكس حجم التراجع الناتج عن النضوب الحضاري، أما أصحاب الفريق الذى يرى أن المخزون الحضارى لمصر متجدد على الدوام، يرى هؤلاء أن الشعب المصرى تحت جلده مخزون حضارى غير مرئى يظهر فقط وقت الأزمات، على أى حال وبعيدًا عن كلا الفريقين المتناقضين فإن النتيجة واحدة وهى حالة التراجع المجتمعى غير المسبوقة، والتى دفعت الرئيس السيسى إلى القول إنه استلم مصر «شبه دولة» وكان هذا التصريح مسار جدل أيضا، لكن الرئيس كان قد بدأ فترة حكمة – ولا يزال – يتخذ من فلسفة المصارحة والمكاشفة منهاجا وسلوكًا رئاسيًا فى حكم البلاد، هذا التصريح الرئاسى الكاشف كان بمثابة ناقوس خطر رئاسى محاولا إيقاظ الشعور الوطنى الجمعى بشكل عاجل، لكن ورغم أن فكرة الرئيس من التصريح واضحة لم ينجح الكثيرون فى التقاط الخيط والعمل على صياغة منظومة تصحيح إبصار شاملة.. كان من المفترض أن يبدأ رجال السياسة والفكر والنخب المجتمعية وجميع القوى الفاعلة فى المجتمع فى العمل على إيقاف نزيف الوعى الوطنى للحفاظ على المخزون الحضاري، ثم وضع آلية محددة لتجديد الفاقد النازف من هذا المخزون، للأسف لم يلتقط أحد الرسالة.. فشبه الدولة يجب أن تصبح دولة والدولة لابد وان تصبح فاعلة وقوية وعفية، الرئيس يشير بإصبعه إلى المشكلة والكثيرون ينظرون فقط إلى إصبع الرئيس ! للاسف لدينا حالة من الفقر الثقافى والتواضع الفكرى ما تسبب فى تعميق الأزمة.. فالأزمة ليست أزمة نوعية تحتاج خلية لوضع حلول لها بين العاجل والآجل، وإنما هى أزمة وعى ينزف فى غيبة العقلاء القادرين على العمل المبدع الخلاق، لدينا نضوب حقيقى فى الكثيرمن مناحى الحياة.. بدءًا من الصّناع والعمال والحرفيين والفنيين المهرة إلى رجال السياسة والأحزاب مرورًا برجال الفكر والأدب والصحافة والإعلام.. حالة تخبط وارتباك شديدة وغير مسبوقة دفعت الرئيس السيسى إلى القول إنه يخشى من أن تكون المؤامرة الحقيقية هى غياب الوعي.. الرئيس وفى أكثر من مناسبة يرسل رسائل واضحة لكن للأسف لا أحد يلتقط تلك الرسائل بالشكل الصحيح ليعمل على صياغة برامج إصلاحية واضحة، والغريب أن كل هؤلاء فى حالة شكوى دائمة.. فكل واحد من هؤلاء يظن نفسه هو الأصلح والأنسب على الإطلاق، وإذا لم يتم اختياره فى مكان ما سينقلب على الدولة ويجلس فى مقاعد البكاءين المهاجمين المنتقدين لكل شيء وأى شيء من أجل لا شيء، نتابع جميعًا تلك النماذج الموجودة بيننا ليل نهار.. فالنقد له أصول والمعارضة لها قواعد، أما ما يجرى فلا علاقة له لا بالأصول ولا بالأخلاق، فعندما ينشغل كل هؤلاء بذواتهم وطموحاتهم وأطماعهم الشخصية فلن نجد من يفكر لإيقاف الشلال النازف من مخزون حضارتنا ولن نجد يخطط لتشييد منظومة الأمل واستشراف المستقبل، لن نجد كذلك من يحمل المعاول لهدم الحائط النفسى الإحباطى الذى تكّون من نتاج إخفاقات السنين، كذلك لم نجد من يتوقف ويترك الآخرين يعملون فى صمت دون الوقوف كحجر عثرة أمامهم.
لقد اكتشفت لماذا قيل «كثيرون حول السلطة وقليلون حول الوطن».
يا سادة.. إننا منشغلون بأنفسنا ونظن أننا منشغلون بالوطن.
إننا نحب أنفسنا ونتظاهر بأننا نحب الوطن.