الاحتلال والاستعمار، مفردتان تحتاجان إلي مزيد من التدقيق، وتفسير دلالة كل منهما منفردتين، سامح الله مَن سطر في مناهجنا التعليمية عن مفردة الاستعمار مجاورة للغرب كان فرنسيّاً أو إنجليزيّاً أو صهيونيّاً أو غيرهم، فأهل اللغة العربية علمونا أن الأحرف الزائدة تحذف عن كلمتها لتعود إلي جذرها أو مادتها أو أصلها، وبحذف الألف والسين والتاء من مفردة الاستعمار وإعادة المفردة لأصلها نكتشف أنها (عَمَرَ) بفتح العين، وبداهة يبرق في الذهن- دون عناء- سؤال: وهل العدو المحتل يهدف إلي عمران وإعمار البلدان وشعوبها؟ أم إلي استنزاف ثرواتها دون رحمة أو شفقة بحاضر أو مستقبل هذه الشعوب؟، وكان المحتل يروج لفكرة أن هدف وجوده المعلن هو تطوير مقدرات تلك البلدان لصالح الارتقاء بشعوبها المتخلفة الرجعية، الهمج، والبربر إلي غير ذلك من تلك الصفات المتشابهة- الرذيلة والثقيلة- وكان أسوأ أشكال الاحتلال وليس الاستعمار- لأن العدو لا يعمر أرضاً ولا يرتقي بشعب- كان الأسوأ علي الإطلاق هو طمس الهوية الوطنية ومحو ثقافتها بداية من اللغة واللهجات المحلية، مروراً بهدم النسق الاخلاقي، وعروجاً علي تشويه منظومة القيم، ولا مانع من سلب الشرف وتدنيس الكرامة الوطنية، وليس أدل علي ذلك إلا ما خطط إليه جورج هاردي مسئول المستعمرات الفرنسية الذي استهدف طمس اللغة والتاريخ والثقافة الوطنية للأرض وشعوبها، وما كان هذا إلا صورة من صور آثار الحملة الفرنسية علي مصر التي ادعت في أسبابها المعلنة نشر العلوم والارتقاء بالمجتمع المصري، والحقيقة كانت علي أرض الواقع غير ذلك تماماً، ومنها أن مصر توقفت عن إرسال كسوة الكعبة المشرفة خلال السنوات الثلاثة -هي مدة احتلال فرنسا لمصر من 1798 حتي 1801، وهجريّاً كانت 1213، 1214، 1215هـ- برغم ادعاءات مينو- الذي أعلن إسلامه- بنيته الاستمرار في إرسال كسوة الكعبة من مصر.
وهنا يذكر الجبرتي: في شهر ربيع الثاني سنة 1216هـ، وهو الشهر نفسه الذي خرج فيه الفرنسيون من مصر؛ بادرت الدولة العثمانية بإرسال المحمل المصري الذي كان مودعاً بالقدس منذ سنوات ولم يرجع إلي مصر بسبب أحداث الحملة الفرنسية علي مصر، فوصل المحمل بصحبة سليمان أغا ومعه بعض الأمراء القادمين من الشام، فقوبل باحتفال عظيم في القاهرة.
وفي شهر جمادي الثاني- أي بعد خروج الفرنسيين من مصر بأقل من شهرين- وصل إلي القاهرة كسوة جديدة للكعبة المشرفة من الآستانة، وكان السلطان العثماني قد أمر بصنعها علي وجه السرعة حينما وصلته أخبار رحيل الفرنسيين من مصر، وأرسلها إلي مصر فوراً عن طريق البحر؛ لتخرج من مصر إلي مكة المكرمة.
فوصلت الكسوة إلي الإسكندرية في أحد عشر يوماً، واستقبلت في مصر بفرح وسرور عظيمين، ويحكي لنا الجبرتي خبر وصول تلك الكسوة ووصفها وابتهاج المصريين بها واستقبالهم لها أحسن استقبال فيقول: «ورد الخبر بوصول كسوة للكعبة من حضرة السلطان، فلما كان يوم الأربعاء 19 من جمادي الثاني سنة 1216هـ حضر واحد أفندي وآخرون وصحبتهم الكسوة، فنادوا بمرورها في صبحها يوم الخميس».
وتابع: «فلما أصبح يوم الخميس ركب الأعيان والمشايخ والأشاير وعثمان كتخدا أمير الحج، والقاضي ونقيب الأشراف وأعيان الفقهاء، وذهبوا إلي بولاق وأحضروها وهم أمامها، وفردوا قطع الحزام المصنوع من المخيش ثلاث قطع والخمسة مطوية، وكذا البرقع ومقام الخليل، ذلك كله مصنوع بالمخيش العال والكتابة غليظة مجوفة متقنة، وباقي الكسوة في سحاحير- صناديق- علي الجمال وعليها أغطية جوخ أخضر، ففرح الناس بذلك وكان يوما مشهوداً».
ويذكر التاريخ أنه في عام فتح مكة 630 ميلاديّاً قام الرسول الكريم بكسوة الكعبة المشرفة بكسوتين إحداهما من قباط مصر (وهو قماش من القطن المصري)، وظل هذا الأمر حتي عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذي أمر عمرو بن العاص بإرسال كسوة للكعبة من القباطي (وهو ثوب دقيق الصنع مُحكم النسج رقيقٌ أبيض كان يصنع في مصر).
«وللحديث بقية»