صالونها جمع كل فئات المجتمع.. وكان أشبه بمنتدى «سياسى ـ اجتماعى»
أول رئيسة للاتحاد النسائى المصرى
الكتابة عن هدى شعراوى ليس بالأمر السهل فهى السيدة التى ولدت على فراش مخملى وفى فمها معلقة من ذهب.. بنت الباشا محمد سلطان البرلمانى ورئيس البرلمان فى عهد الخديو توفيق وتزوجت ابن عمتها الباشا على شعراوى بن عمدة الطاهرة وكلاهم من المنيا.. فالوالد عاش فى المنيا بصعيد مصر تعود جذور عائلته إلى الجزيرة العربية وتقول بعض الكتب التى تناولته انه من منطقة الحجاز.. أما أمها فهى من أسرة شركسية تعود إلى بلاد القوقاز.. وهذا كانت له آثاره الجينية الواضحة على ملامح الفتاة المخملية هدى شعراوى.. وكان لقرب والدها من الخديو اسماعيل والخديو توفيق أثر كبير فى مناصبه البرلمانية علاوة على ثراؤه الكبير حيث يمتلك نحو 12 ألف فدان فى ضيعة المنيا.. الفتاة توفى والدها بعد ولادتها حيث تقول وثيقة الميلاد ان هدى محمد سلطان ولدت فى 23 يونيو عام 1879.. رغم الوجاهة السياسية للأب لكن وفاته وهى صغيرة جعلت عواصف الحياة تدخل فى مسيرة حياتها بإسناد الوصاية على الفتاة الصغيرة إلى ابن العمة على شعراوى عضو لجنة الوفد الذى قابل المعتمد البريطانى – بعد ذلك – مع سعد زغلول وحمد الباسل.. كانت الفتاة الصغيرة قبل أن يشتد عودها تتحدث ٣ لغات مع العربية وتحفظ القرآن الكريم طفلة دون التاسعة.. تتحدث الفرنسية والانجليزية والتركية.. فى مسيرة حياتها لحظات «تمرد» على عصر الحريم والقصور وهوانم العصر الملكى ونجحت مع هوانمه سيزا نبراوى وملك حفنى ناصف زوجة أبو بكر الباسل شقيق حمد الباسل أن تتجه إلى العمل الاجتماعى وهو الذى صنع اسطورة هدى شعراوى التى لم تأسرها كثيرا حياة القصور والهوانم رغم انها لم تتخل عنها فهى المرأة من الشرق التى تمردت ضد الانجليز بقيادة مظاهرة نسائية مبكرا من 300 سيدة ضد الاحتلال وللإفراج عن سعد ورفاقه وأيضاً هى نفسها التى خلعت اليشمك ورمته أرضا وطالبت بحقوق المرأة المصرية فى وقت مبكر من القرن الماضى.
يقولون عنها ان هدى تربت فى قصور «الهوانم» بجاردن سيتى لكنها لم تعشق طريقتهم فى الحياة.. حياتها مملوءة بالصفحات المشرقة والمضيئة للمرأة المصرية.. وحديثا بعد أن نشرت مذكراتها فقد سبقت أهم مذكرات للمرأة التى جاءت بعد عدة عقود بعدها «بنازير بوتو» وكتبت كتابها «امرأة من الشرق».. فإن هدى شعراوى سبقتها بسنوات طوال كامرأة من الشرق تنادى بحقوق المرأة السياسية والاجتماعية.. وربما لا يعرف الكثيرون ان السيدة هدى شعراوى أول من تصدى لزواج القاصرات ومبكرا بمطالبها بتحديد سن الزواج بـ 16 عاما وللشاب 18 عاما.
فى هذه السطور نتحدث عن سيدة ولدت فى المنيا وعاشت ما بين المنيا والقاهرة واستطاعت فى مجمل حياتها 1879 – 1947 أن تترك اثرا انسانيا لا يزال حيا يذكر بمآثرها فى تثقيف المرأة وتوعيتها وتعليمها.
المولد والنشأة
وسط صخب سياسى واقتصادى واجتماعى يدور فى مصر بعد 10 سنوات من افتتاح قناة السويس فى عهد الخديوى اسماعيل ولدت نور الهدى محمد سلطان وكانت اهازيج حركة عرابى تدور بين ثنايا الوطن ويقولون انها كانت فى فترة الطبخ على نار هادئة قبل المواجهة بين عرابى والخديوى والتى انتهت بالاحتلال الانجليزى عام 1882 والطفلة لا تزال تحبو ولا تعى ما يدور حولها.. رغم ان والدها يشغل منصبا مهما فى البرلمان.
وفاة الأب ووصاية ابن العمة
وبعد فترة قليلة ذهب الوالد ومعه الأسرة فى رحلة علاجية للخارج فى سويسرا بينما الأسرة كانت تقيم فى النمسا وتوفى والدها محمد سلطان وكان أول امتحان للطفلة هدى ما مصيرها.. وانتهى الاتفاق العائلى بإسناد الوصاية إلى ابن عمتها على حسن شعراوى الذى لمع اسمه فى لجنة الوفد مع سعد زغلول.. واللافت ان شعراوى كان لا يحبذ تعليم البنات.. وهو ينتمى أيضاً لأسرة ثرية من المنيا فوالده حسن افندى شعراوى كان عمدة المطاهرة بمركز المنيا وكان نائبا فى مجلس الشورى عام 1866 وهو المجلس الذى عاصر افتتاح قناة السويس.
مفاجأة الزواج
وكانت المفاجأة ان عرض على شعراوى القطب السياسى الوصى على نور الهدى سلطان الزواج.. والذى تم فعلا سريعا وقبلت الفتاة الصغيرة هدى أن تحمل اسم على شعراوى وتتزوجه رغم ان الفارق بينهما كان نحو 40 عاما صحيح الزواج فى نظر القريبين منها متكافئ اجتماعيا لكن فارق السن كان عقبة لطفلة تخلصت منذ قريب من طفولتها وفى مجتمع شبه «ذكوري».
حسنة الزواج
وفى نظر القريبين من هدى وبحسب مذكراتها انها وضعت شرط أن تعيش فى القاهرة وكانت تعلم ان شعراوى له زوجة وأولاد وبالفعل كان هدفها دخول العمل الاجتماعى والسياسى واعطاها شعراوى الفرصة للفتاة.. «الهانم» المتطلعة وبهذا الزواج اقتربت وهى بنت الباشا من أم المصريين صفية زغلول فدخلت المجتمع المخملى التى هى جزء منه من بابه الواسع ومعها رفيقتا دربها سيزا نبراوى ونبوية موسي.
وبالفعل لم تهدأ هدى شعراوى منذ البدايات ولم يشغلها الزواج عن هدفها ودخلت العمل الاجتماعى بحملة تبرعات من أجل الطفل المصرى عام 1907 وكان لها طفل ثمرة زواجها.. ولاقت هذه الدعوى صدى كبيرا فى المجتمع المصرى خاصة بين «هوانم» الطبقة المخملية الذى لفت انتباه «السراي» إلى نشاطها الاجتماعي.. وبعد ذلك دعت الكاتبة الفرنسية مارجريت كلامين لإلقاء محاضرة نسوية بالجامعة الأمر الذى كان لافتا وجعل الأمير «فؤاد» الملك بعد ذلك ينظم لقاءاً نسائياً متكررا مع سيدات المجتمع.. وتمخض عن هذه اللقاءات تأسيس جمعية محمد على الخيرية التى كان هدفها توعية الأسر صحيا حول رعاية الأطفال وتعليم السيدات حرفة الخياطة.
رفع شأن المرأة
ووسط هذا اهتمت هدى شعراوى ومعها رفيقة دربها سيزا نبراوى وأيضاً نبوية موسى برفع الوعى لدى المرأة المصرية بقضايا مجتمعها وتشجيع الفتيات على التعليم ودعمتهن أم المصريين صفية زغلول.
وهنا احست هدى شعراوى ان زواجها من على شعراوى رغم فارق السن فتح لها الأبواب المغلقة لتمارس نشاطها النسائي.. وبدأت تشارك فى مؤتمرات خارجية عبر جمعيات نسائية تتابع فيها حركة النساء فى أوروبا.
تظاهرة نسائية
وقادت هدى شعراوى تظاهرة نسائية ضمت نحو 300 سيدة تطالب بالإفراج عن سعد ورفاقه وكانت تشغل وقتها رئيس لجنة الوفد المركزية للسيدات وأثناء استقبال سعد ورفاقه قادت زميلاتها فى الاستقبال ولها حادثة مشهورة عندما خلعت اليشمك «البرقع» وطرحته أرضا وقالت مقولتها المشهورة ان النساء لسن أقل شجاعة من الرجال لابد من الخروج دفاعا عن الوطن.
تحديد سن الزواج
ودفاعها عن المرأة وهى بنت زمانها وتزوجت صغيرة وتعتقد انها لم تعش طفولتها فقادت حملة تصدت فيها لتحديد سن الزواج للفتاة بـ 16 عاما والشاب 18 وكان معها فى هذه الحملة سيزا نبراوى واستر فهمى وفكرية حسن وباحثة البادية ملك حفنى ناصف.
تأسيس الاتحاد النسائى
ولم تتوقف هدى شعراوى عن ذلك بل امتد نشاطها لتأسيس الاتحاد النسائى المصرى وأصدرت له مجلتين بالفرنسية والعربية باسم المجلة «المصرية» وعام 23 تولت نائب رئيس الاتحاد النسائى الدولى وفى عام 1924 طالبت بإنشاء مدارس للتعليم وعلى اثر حملتها تم افتتاح المدرسة السنية التى تعتبر الاشارة القوية لتعليم جيل من القيادات النسائية وفتح التعليم أمام الفتاة من مصر.
دعم مشروع طلعت حرب «بنك مصر»
ولم تقف صامتة أمام دعوة الاقتصادى المصرى طلعت حرب لإنشاء بنك مصر عام 1930 وكانت مع الصفوف الأولى فى تأييد دعوة «حرب» لتمصير البنوك وقادت حملة التبرعات وأبلت بلاء حسنا فى تشجيع مجتمع الهوانم لإنجاح التجربة حتى تأسس أحد أقدم بنوك مصر.
صالون هدى شعراوي
كان لها صالونها السياسى والثقافى والاجتماعى والفنى هرع إليه كبار الأدباء والمفكرين ورجال السياسة واحتضن المواهب وخاضت من خلاله معارك واجهت فيها الملك فاروق ولم يكن أحد يجرؤ على خوضها.. ولم لا وهى السيدة التى أيدت سعد زغلول وعارضته حفاظا على الوحدة الوطنية كان صالون هدى شعراوى يرسم خريطة مصر التى تريدها لا مصر التى كان يريدها السراى جمعت كل فئات الشعب واحتفظت بوقار هوانم مجتمعها فى آن واحد.
هواياتها
ولها ولع بالفن التشكيلى والثقافة والفنون الأخرى إضافة إلى انها عازفة بيانو ومن أجل ذلك ساهمت فى ايفاد الفنانين التشكيليين إلى أوروبا للدراسة وكانت لها مواقف نبيلة معهم ومن مواقفها النبيلة ما قدمته للفنان محمود مختار الذى لقبها بأمنا «ايزيس» وكونت جماعة أصدقاء محمود مختار.
أجواء الحرب العالمية
وبينما الحرب العالمية الثانية تتسع دائرتها فى كل أوروبا ومع اشتداد سعيرها عادت إلى مصر.. وعاشت مرحلة المخاض لتأسيس الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية الذى تزامن مع صمت البنادق.. وكان صالونها يناقش أجواء الحرب وآثارها على مصر وساهمت فى دعم المواقف الوطنية المصرية فى هذه الفترة وسط تشابكات حرب العلمين ومعركة الدبابات على الأرض المصرية.
كلماتها الأخيرة كانت رسائل امرأة تمرست على الحياة بكل صنوفها وهذا ذكرته فى مذكراتها فقد قالت «أرجو منكم ألا تبكو عليّ.. فأنا وفيت بكل ما كان عليّ من ديون لهذا الوطن.. اليوم صار قبرى داري.. فليبارك الله دار الصمت هذه».
بيان عن فلسطين
وبينما كانت قد دخلت فى الصراع مع المرض فى 12 ديسمبر عام 47 كانت تعد بيانا لإنقاذ فلسطين قبل نحو 5 أشهر عن إعلان دولة اسرائيل.
فى ذاكرة الكتاب
وصفها نقيب الصحفيين الأسبق كامل زهيرى بأنها زعيمة الحركة النسائية فى مصر أيام ثورة 19.. وظلت تمارس دورها الاجتماعى والتوعوى حتى وفاتها 1947 فهى – والكلام لزهيرى – بنت الباشا وزوجة الباشا التى كانت تخطب فى مصر بالعربية وفى الخارج بالانجليزية وتحدثت عن مذكراتها الكاتبة الكبيرة أمينة السعيد التى نشرت مذكراتها وقدمت بأسلوب رشيق أسرارا من حياتها مشيدة بدورها فى الحركة الوطنية المصرية.
قدم لها فكرى أباظة التحية عبر جريدة السياسة عام 1924 مذكرا بما تقوم به فى مصر ودورها فى الحركة النسائية المصرية وما تقدمه من صورة نبيلة للمرأة المصرية.
حقيقة مذكراتها
كانت هدى شعراوى حريصة على تدوين مذكراتها ونجحت السيدة التى عاشت وسط المجتمع وتجولت فى خريطة المحروسة مع كل طبقاتها وحولت ما عاشته فى مذكرات كأغلب الساسة والصحفيين والمفكرين لكنها كتبتها بأسلوب صحفى وكأنها تقلد الكاتب البوليفى غابرييل جارسيا الحاصل على نوبل فى الخارج ورءوف عباس استاذ التاريخ المعاصر بجامعة القاهرة وخالد محيي.. الآن اتكلم من المسئولين والسياسيين بعضهم أصدر مذكراته فى حياته والبعض الآخر فضل أن تصدر بعد وفاته تحسباً لمن يكتب ضد الشخصية مخالفاً لواقعها أو ملونا لتجاربها وأحداثها.. محطات كثيرة فى مذكراتها ردت فيها على كثير من الأسئلة التى تحدثت عنها وهى المذكرات التى لاقت صدى سواء باللغة الفرنسية أو العربية.. وبرغم نشاطها المكثف إلا ان واقع المذكرات يروى قصة «سيدة من الشرق» أفضت بها إلى سكرتيرها عبدالحميد فهمى مرسي.. عاشت فى مجتمع مخملى وسط هوانم عصرها ولم تبارح مجتمعها الذى ناضلت من أجله.. انها نور الهدى محمد سلطان «هدى شعراوي».
رمز نسائي
لم تكن هدى شعراوى مجرد سيدة ولدت فى مجتمع ارستقراطى بل هى سيدة لها أثرها التوعوى فى الأخذ بيد المرأة المصرية فى وقت مبكر حملت خلاله شعلة التنوير لنيل المرأة حقوقها.. وتركت إرثاً توعوياً اجتماعياً مازال يتذكره الشارع المصرى السياسى والاجتماعى كان لها دور مهم فى النهوض بالمرأة والأخذ بيدها فى التعليم فظلت رغم وفاتها قبل نحو 71 عاماً على وفاتها و139 عاماً على مولدها رمزاً نسائياً مصرياً تتذكره الأجيال.