شتان بين حال الوزير وهو يتلقى نبأ تكليفه بالمنصب، وبين حاله وهو يغادر الوزارة، فى الحالة الأولى يشعر الوزير ومن حوله بالفرحة وربما بزهو ونشوة واعتزاز بما يجلبه المنصب من نفوذ وربما منافع تذهب للبعض ..هنا تقبل الدنيا على صاحب المنصب الرفيع، ويكثر من حوله المنتفعون والراغبون فى جنى المكاسب، أما إذا حين يجرى استبعاد الوزير أو المسئول الرفيع من منصبه، فهو بين حالين، أما أحدهما فإن كان صالحًا راعيًا لأمانته فإنه يغادر التشكيل الوزارى وهو يحمل فوق كتفيه تاريخًا مشرفًا يضعه فى مصاف العظماء وأهل المصداقية، مصحوبًا برضا شعبى عنه يجعله مأسوفًا على رحيله من المنصب، أما إن أساء وضيع أمانته فسرعان ما تظهر مشاعر الشماتة فيه من الكارهين وربما من المحبين المزيفين، وينصرف عنه المنافقون المنتفعون الذين تحلقوا حوله من كل حدب وصوب رغبًا وطمعًا، والذين طالما زينوا له سوء عمله، وينفضون عنه بلا تردد، ولمَ لا وقد انقطعت عن صاحبهم أسباب النفع وتقطعت بهم سبل المغانم الواصلة إليه..هكذا هى الدنيا التى لخصها حكيمٌ بقوله:
رأيت الناس قد ذهبوا >> إلى من عنده ذهب
ومن لا عنده ذهب >> فعنه الناس قد ذهبوا
رأيت الناس منفضة >> إلى من عنده فضة
ومن لا عنده فضة >> فعنه الناس منفضة
رأيت الناس قد مالوا >> إلى من عنده مال
ومن لا عنده مال >> فعنه الناس قد مالوا
والحكيم من اتعظ بغيره، ولم يأخذ العبرة من نفسه..هذه حكمة لا يدركها إلا صاحب بصيرة يعلم أن الأيام دولٌ، ولا شيء يدوم، فالدنيا يوم حلو ويوم مر، والمنصب أيًّا كان هو عرَض زائل لا يستقر عند أحد، فلو دام لغيرك ما وصل إليك، وهو ما يجعل أداء الأمانة على وجهها بإخلاص وتفانٍ وتجرد ونزاهة وزهد، ورغبة صادقة فى خدمة الناس ونفعهم ضمانة أساسية تجعل يوم مغادرة الوزير أو أى مسئول لمنصبه أحب إليه من يوم توليه لهذا المنصب، وتجعل سيرتهم محمودة، ويبقيهم فى ذاكرة الناس مثالًا للشرف والاستقامة والإنجاز وطهارة اليد.
وإذا كان منصب الوزير هو الأعلى فى الجهاز الإدارى للدولة، بما يمنح صاحبه من سلطة ونفوذ وظهور إعلامى مكثف لتبصير الرأى العام بدور وزارته وما تقوم به من مهام وجهود لخدمة الدولة والمجتمع؛ ومن ثم يتمتع الوزير باختصاصات واسعة؛ بحسبانه رجل سياسة بالأساس يلتزم صاحبه بتنفيذ سياسات الدولة مع التزامه التام بتطبيق ما ورد فى الدستور وما يترتب عليه من قوانين فى دائرة اختصاصه لخدمة المواطن أولًا.
ومن مقتضيات المسئولية السياسية للوزير أنه يتحمل شخصيًا مسئولية كل قرار يصدر عن وزارته، ويتحمل أخطاء فريق العمل الذى يعمل تحت إمرته فى كل موقع بالوزارة وهيئاتها التابعة، وتلك هى روح المسئولية السياسية التى يغفل عنها أو يتجاهلها البعض، والتى تجعل المدير أو القائد مسئولاً عن أخطاء مرءوسيه أيًا ما كانت وظائفهم، وأن الفارق بين وزير وآخر هو الأداء المتميز والحس السياسى والرؤية الواسعة التى تتحرر من الإغراق فى تفاصيل يومية روتينية يحسن أن يباشرها مساعدون أكفاء يتولى الوزير اختيارهم بعناية.. ولن يتحقق النجاح المأمول ما لم يكن الوزير حاضراً بشكل فاعل بمتابعة مستمرة دءوبة تفرض على القائمين تنفيذ توجيهاته بدقة متناهية وكأنه موجود بشخصه فى كل صغيرة وكبيرة.
نجاح الوزير لا يأتى من فراغ بل يستلزم مهارات قيادية وتخطيطًا علميًا بمعايير عالمية ونشاط دائم لا يكل ولا يمل، ويأخذ من الراحة ما يعينه على مداومة النشاط المبدع بنفس الطاقة مع توزيع للجهد حتى يحفظ للذهن قوته ويضمن السلامة لقراراته فى وقتها المناسب دون إبطاء أو استعجال.
العدالة مع المرءوسين وتقديم أهل الخبرة والقدرة يضمن تكافؤ الفرص واستدامة الإنجاز، مع الحركة الدائبة وسط الجماهير لحل مشاكلهم وعدم الاتكال على التقارير المكتبية التى تستند لقاعدة بيروقراطية مفادها أن كله تمام وليس فى الإمكان أفضل مما كان، فتلك آفة لا يسلم منها إلا من أوتى بصيرة ثاقبة ورؤية نافذة ترى ما لا يراه الآخرون.
الحرص على رضاء المواطن والتزام الشفافية والمصارحة واحترام الرأى العام وتجنب تعارض المصالح يجلب للمسئول حب الناس ويوفر للحكومة ظهيرًا شعبيًا يؤيدها ويضمن النجاح لقراراتها..المهم أن يشعر المواطن أن الحكومة جاءت لخدمته وتخفيف متاعبه وليس للجباية أو تحميله فاتورة كل إصلاح، ثم تحمله نتيجة أى إخفاق.
الوزير أى وزير مطالب بأن يحسب ليوم رحيله ألف حساب، وأن يحسب لوقفته أمام الله ألف مليون حساب، فالله تعالى يقول فى كتابه الكريم:» وقفوهم إنهم مسئولون»..إذا ما فعل الوزير ذلك أمن شر المنصب، وشر المنافقين وبطانة السوء..فهل يحسن كل وزير جديد قراءة التاريخ القريب والبعيد، وأن ينظر فى سيرة أسلافه حتى يعرف على اى أرض سيقف وأى مرتقى سوف يرتقي..؟!