يلتقى العواجيز فى مقهي»كان».. وهو المقهى الذى لايحلو فيه الكلام الا عن كل ما كان.. ومن كان.. فى سالف العصر والأزمان.. البيضة أم تلاته تعريفه ورطل اللحم بستين قرشا والكابوريا التى كان الصيادون يلقونها على الشاطيء فى بور سعيد ليجمعها الأطفال وشوارع وسط البلد والتى كانت تغسل بالماء والصابون فجر كل ليل.. بالأمس اجتمعت مجموعة من الأطباء العواجيز فى المقهي.. ودار الحديث بينهم حول الطبيب المصرى بين اليوم والأمس..
بالأمس كان للطبيب المصرى مكانته العالية بين أطباء العالم.. سواء فى بلده أو خارج بلده.. علم وخلق وتحضر ورقي.. يتألق فى المحافل العلمية.. وينصت الآخرون حين يتكلم.. فى وقت من الأوقات كنت أنا المسئول عن اختيار الأطباء المتقدمين للوظائف فى المستشفى الذى أعمل به فى بريطانيا.. وقيل لى إن الأطباء من بريطانيا وأستراليا لهم الأولوية فى الاختيار يليهم الطبيب المصرى ثم الأطباء من باقى الدول.. أيامها كان الأطباء المصريون على قمة الكثير من التخصصات الطبية فى بريطانيا.. والبعض منهم اختير طبيبا للملكة نفسها مثل «السير» مجدى يعقوب والمرحوم الدكتور عمر شاهين أستاذ الأنف والأذن..
أنا من الجيل الذى تعلم الطب على يد أساتذة العصر الذهبى من تاريخ ممارسة الطب فى مصر.. والذين تخصصوا فى الخارج بعد التخرج فى مصر.. كانت الدفعة فى أى كلية طب لاتزيد على مائتين من الطلبة والطالبات.. كنا نعلم أسماء كل الطلبة والأساتذة والعاملين فى الكلية.. وكذلك كان يفعل الأساتذة.. مجتمع واحد ندرس ونلعب ونتألق.. كنا نذاكر من المراجع الطبية العالمية.. وفى كل المواد تقريبا.. هكذا كان الحال السائد. لذلك فعندما عملنا فى الخارج بعد التخرج.. وجدنا أنفسنا ونحن نتكلم نفس اللغة العالمية فى الطب.. ووجدنا أنفسنا ونحن نتفوق على أصحاب «الأرض».. كان الطبيب المصرى يتألق فى كل مكان يعمل به.. علم وافر واسع الأفق.. وخبرة كبيرة جدا نكتسبها فى بلدنا فى فترة الامتياز و»النيابة».. هذه الخبرة الواسعة التى نكتسبها على يد أساتذتنا لم يكن لها مثيل.. لذا كنا ننجح ونتفوق فى عملنا بالخارج.. كل ما كنا نكتسبه هناك هو التطبع بأخلاقيات الممارسة الطبية الراقية.. كيف نتعامل مع المريض.. ومع التمريض ومع الزملاء.. تعلمنا لبس الكرافته وحلاقة الذقن كل يوم.. ولبس البالطو الأبيض الناصع البياض والذى نجده أمامنا كل صباح.. تعلمنا الالتزام بدقة المواعيد.. بدون توقيع حضور وانصراف.. تعلمنا ذلك حتى تميزنا على الجميع.. لأننا تأسسنا صح.. وبالأسلوب الصح..
وانتقلنا الى حالنا اليوم.. وقد تغير الأمر تماما.. ولم نعد نسمع عن صولات النجاح والتميز للطبيب المصري.. بل وجدنا أن بعض الدول تشترط عقد امتحان للأطباء المصريين قبل ممارسة الطب فيها.. لم تعد عيادات باب اللوق مزدحمة بالمرضى من كل البلدان العربية.. وكان بعضها يعمل حتى الفجر.. رغم البدعة الجديدة والغريبة للإعلانات عن الأطباء.. والمحرمة فى ميثاق المهن الطبية.. أصبح من الصعب الآن أن يجد الطبيب حديث التخرج فرصة للعمل بالخارج.. أى خارج.. سواء للعمل أو الحصول على الشهادات.. بل لقد أصبح موضوع الحصول على الشهادات والزمالات أمرا غير شائع وأصبحنا نكتفى بالدبلومة أو الماجستير على أكثر تقدير ..
عدد الطلبة والطالبات الآن فى أى دفعة فى كليات الطب أصبح يقارب أو يزيد على الألف.. والأمر السائد أن غالبية طلبة الطب الآن يدرسون ويتعلمون من «الملازم» أو الدروس الخصوصية والمذكرات التى يكتبها المعيدون أو المدرسون والذى هم فى الأساس تعلموا مثلهم من الملازم.. لذلك يفتقر البعض منهم للمعرفة بالتطور الهائل والسريع لعلوم الطب والذى لابد من أن نتعلمها من خلال المراجع والمجلدات العالمية.
نحن نستطيع أن يكون لنا مثل هذه المراجع الطبية.. نحتاج فقط لرؤية وفكر.. ونحتاج لعمل جماعى هادف.. ولدينا كل ما يلزم ومن يلزم لتنفيذ ذلك.. ونحن فى حاجة ماسة لتنفيذ ذلك.