فى هذا الحى الهادئ لا تسمع صوت أحد على الإطلاق، فلا نقاشات، ولا حوارات، ولا معارك، ولا اشتباكات.. سكان هذا الحى ليس لهم موقف واضح فى أى قضية مطروحة على الساحة، فلا يتفاعلون مع الأحداث مهما كانت سخونتها، ولا يخوضون معارك، ولو كانت تحت وسائد أسِرتهم، أو فوق ستائر نوافذهم. يكتبون كثيرًا، لكن بمداد رمادى فى كل القضايا، لكنك لن تنجح فى الوقوف على آرائهم فى قضية ما، أهم مع أم ضد؟ لا يستطيع أحد معرفة مقصد هولاء وتوجههم وآرائهم، هم كائنات رخوة، بلا مبدأ، ولا قيمة، ولا رأى، ولا موقف.. عاصرت هؤلاء كثيرا فى لحظات مفصلية فى تاريخ الأمة، دائما ما يقيسون المسافات ويقدرونها قبل الإفصاح عن رأى ما فى قضية ما، ولو كانت قضية بقاء وبناء وطن، لا يهتمون كثيرًا بمقومات حماية الدولة الوطنية، وما يترابط بها من قيم التضحية والفداء والرجولة والشرف.. بقاؤهم فى المشهد هو الأهم، يرقصون مع كل طبلة، ويكتبون بكل الأقلام، ويرفعون كل الرايات، ويأكلون على كل الموائد، ويعد كل واحد منهم مشتركًا متعدد الفتحات، ويعمل بالكفاءة نفسها مع الجميع. فى الحى الرمادى لن تجد إلا أنصافًا فقط.. أنصاف رجال وانصاف مثقفين، وأنصاف إعلاميين، وأنصاف صحفيين، وأنصاف كتاب. اليوم، ونحن نقوم بتعداد سكان الحى الرمادى، فوجدنا العجب العجاب، استدارة فى لمح البصر، وسرعة فى تغيير التموضع وفقًا لبوصلة الهوى بين غمضة عين وانتباهتها، فمن الدفاع الخجول عن الدولة فى كل معاركها إلى الصمت المقزز مع أول أزمة تواجه المشروع الوطنى من جراء أزمة اقتصادية عالمية طاحنة، تجد هؤلاء يستبدلون بإشاداتهم العظيمة بالمشروعات القومية على سبيل المثال، انتقادات لاذعة للمشروعات نفسها، وبالحماسة نفسها.. تجدهم فى جلساتهم الخاصة يتهامسون «المركب رايحة على فين؟»، و»يا ترى البلد هتعدى من الأزمة الاقتصادية دى؟»، و»يا ترى الناس هتتحمل؟!».. هؤلاء ليس لديهم مبدأ ثابت يحاربون من أجله، فكل لديهم مصالح ثابتة تحققها مبادئ مرنة، وثوابت وهمية.. الآن ومع أزمة المناخ المتزامن مع أزمة إمداد الغاز المتزامن مع الأزمة الاقتصادية الطاحنة ودخول العالم ما يشبه الركود التضخمى العنيف، ومع تأثيرات ذلك المشهد على الاقتصاد الوطنى المصرى، والضيق الذى طال الكثيرين من أبناء الشعب المصرى من جراء حدة الأزمة– كما يحدث فى كل دول العالم– وجدنا هؤلاء يسارعون إلى إعادة التموضع فى استدارة عاجلة، والملاحظ أن معظم هؤلاء يظهرون فقط وقت الرخاء ليشاركوا فى الأفراح ويعتبرون أن البيت بيتهم والفرح فرحهم، بينما يكون الاختفاء سنتهم وفرضهم وقت الأزمات فلا ترى منهم أحدا على الإطلاق، وربما ظهر أحدهم ليقف عكس التيار الذى كان يختبئ بين جنباته ليسجل موقفا ربما يقتات منه مستقبلا، واليوم أرى حولى الكثيرين من تلك الطفيليات الرمادية يحاولون العبث فى وقت لا يجوز فيه العبث، يحاول هؤلاء أن يكون لهم قول وتواجد على الطرف الآخر من النهر فى ظل التحديات الحالية التى تواجه دولتنا العظيمة فى كل الاتجاهات، لكن هؤلاء لا يعرفون قْدر مصر وقَدَرها فهى كبيرة وعريقة ومحروسة فى كل زمان ومكان وخاب الرماديون فى كل الاوقات.