مع كل احتفال بذكري 30 يونيو يجب أن نراجع ذكرياتنا وأن نسترجع المشهد المصري قبل هذا اليوم.. قد ينسي الفرد وتتوه منه الأحداث وتسقط من ذاكرته أيام ووقائع، هذه طبيعة البشر، لكن الشعوب لا تنسي ولا يجب أن تنسي، ذاكرة السمك لا يمكن أن تكون وصفا للشعوب، لأن آفة النسيان إذا تملكت من شعب فقد هويته وانهارت قوته وضاعت دولته، والمصريون واعون تمامًا لتاريخهم ذاكرتهم متصلة غير منفصلة، وتلك كلمة السر في حضارة هذا الشعب العظيم.
المصريون لا ينسون أبدا ما كان واقعا قبل 30 يونيو 2013، مرارة الوضع ومأساوية المشهد وتدهور الحال بسبب جماعة جاءت إلى الحكم في غفلة شعبية ولم تكن مؤهلة له ولا قادرة عليه ولا مستوعبة المعنى الدولة ولا مؤمنة بفكرة الوطن، لأنها تربت على عقيدة أخري، هي الانتماء للجماعة والولاء للتنظيم والانصياع لمرشدهم..
كان وجود هذه الجماعة في حكم مصر انقلاباً فعليا وكارثيا على هوية وتاريخ وطبيعة الدولة المصرية، لا هم منا ولا نحن منهم حاولوا اختصار الدولة فى الجماعة والأهل والعشيرة وطوعوا كل قدرات الوطن من أجل مخططهم لأخونة مصر فكرا وثقافة وجيشا وشرطة ومجتمعاً.
الوقائع الدالة على هذا المنهج كانت كثيرة وواضحة وأول من كشفها هم حلفاء الجماعة أنفسهم.. أخونة الدولة كانت حقيقة وتحركوا فيها بكل ما استطاعوا وبخطوات متسارعة عمليات تسكين كوادرهم وعناصرهم في الوزارات والهيئات المختلفة كانت تتم بشكل لافت، لم يتوقفوا عن محاولات السيطرة على مفاصل الدولة واختراق كافة الأجهزة المهمة والصلبة في مفاصل الدولة الوطنية.
ظهر الإرهابيون والقتلة كجزء من الحكم تصدروا المشهد السياسى واعتلوا منابر الأوقاف وسيطروا على الشاشات تعاملوا مع الدولة كجزء خاضع لمكتب الإرشاد فتراجعت مكانتها وأصبح قرارها بعيدا عنها، وفتح ذلك الباب لدول وقوى أخرى كي تظهر وتمارس الدور المصرى بل وتتحكم في تحركات مصر نفسها، ولم يكن لدى الجماعة ومندوبها في الاتحادية أي غضاضة في هذا هكذا حالهم في كل الدول التي سيطروا عليها، كان كل ما يشغلهم كيف يفرضون إرادتهم ويثبتون أركان جماعتهم.
حاولوا صناعة الحرس الثورى الخاص بهم ليحل بديلا للجيش والشرطة، سيطرت عليهم روح الاستحواذ ورغبة الانتقام من كل معارض لهم، تخيلوا أن الشعب خانع وخاضع لهم فسعوا لفرض رؤيتهم واعتقدوا أن الأمور دانت لهم فراحوا يتوسعون في قرارات السيطرة والهيمنة، وتصوروا ان الدولة أصبحت في قبضتهم بلا منازع فتعاملوا بغطرسة وفجور سياسي وديني وظهرت أطماعهم الحقيقة ليس الحكم من أجل الشعب وإنما حكم الشعب الصالح مخططهم ورغبتهم فى دولة المرشد، ووهم الخلافة الوهمية..
لم يبحثوا عن إصلاح سياسي كما كانوا يدعون، ولا تطوير اقتصادى كما كانوا يروجون، ولا بناء دولة كما كانوا يزعمون، وإنما ما كان يشغلهم التمكين الاحتلالي من الدولة، ولهذا تفاقمت المشاكل وتزايدت الأزمات وتضاعفت الكوارث، لا كهرباء ولا وقود ولا رغيف خبز، لا أمن ولا أمان لا استثمار ولا تنمية ولا تعمير، حلولهم العبقرية .. كانت قائمة على كذبة طائر النهضة المحلق عاليا، فلما سقط في أول اختبار استبدلوه بفكرة دينية روجوا لها وهي الصبر والتحمل، نظرية الجهاد التي ربطوها بالقمع لكل من يخرج عليهم أو يخالف أوامرهم.
أحداث الاتحادية وسحل المتظاهرين خير شاهد على ارهابهم.. والتعديلات الدستورية الديكتاتورية أبرز دليل على دكتاتوريتهم، وحصار المحكمة الدستورية ومدينة الإنتاج الإعلامي أوضح صورة على فاشيتهم.. وقوائم المطلوبين للاعتقال أو الاغتيال أكثر تعبير عن إجرامهم الذي مارسوه ضد الشعب الذى لم يعد أمامه إلا الانفجار، بعدما وجد الحال يضيق والأفق يختنق ودولته تضيع منه، وهويته تتبدل، لم يكن متصورًا في حال كهذا أن يقف المصرى متفرجا أو صامتا، لم يفعل المصرى ذلك طوال تاريخه، ولهذا كانت الثورة الحاسمة، كانت لحظة القرار التى يشهد التاريخ أنها كلما حدثت كان التغيير الذى يقلب المعادلات الدولية ويربك الحسابات السياسية في الإقليم بل فى العالم..
حدث ذلك في 23 يوليو 1952، ثم في 6 أكتوبر 73، وجاءت لحظة القرار الأصعب في تاريخ المصريين، التخلص من هذه الجماعة الخائنة للوطن، والدين، الكارهة للدولة المجرمة في حق الشعب.
في 30 يونيو قال الشعب كلمته.. محتميا بعون الله وبإرادته ومساندة جيشه الوطني وشرطته الباسلة وقائده الذي انحاز من أول لحظة لارادة شعب وتحمل مسئولية التصدى للخطر الإخواني، لم يكن هذا الموقف يسيرا بل كان مصيريا، تحدى القائد الوطني الخطر وأعلن أنه لن يسمح ان تمتد يد بسوء إلى الشعب المصرى.. وكان الجيش والشرطة على العهد، ضحوا بكل غال ونفيس من أجل حماية الشعب، ومواجهة الإرهاب، واستكمالا للمهمة الوطنية كان اختيار الشعب للقائد كى يقود البلاد من أجل إعادة بنائها بعدما دمرها الإخوان وأهدروا قدراتها.
استجاب القائد للشعب، وعلى مدى عشر سنوات كان العمل والعرق والجهد، كانت التضحيات والإصرار على البناء، كان القرار ان مستقبل الدولة مقدم على كل شيء .. عشر سنوات من البناء شهدت مصر خلالها تحديات ضخمة ومؤامرات لم يسبق ان واجهت مثلها حصاراً اقتصادياً وتصديراً للإرهاب واستهدافاً واضحاً وصريحاً، محاولات لإرباك المشهد ونشر الفوضى. وضرب أي خطوات لتحقيق الاستقرار، ورغم ذلك لم يتوقف القائد ولم يلتفت لأهل الشر بل واصل طريقه نحو البناء، ونحن نجنى ثمار ذلك الآن، دولة جديدة تمتلك مقومات القوة وركائز التقدم وأعمدة المنافسة.
هزمنا الإرهاب بفضل تضحيات رجال الجيش والشرطة.. واستعدنا الأمن الذي غاب طويلا بسبب جرائم الإرهابية، استعدنا مكانة مصر وتأثيرها الاقليمي والدولي وعمرنا الأرض بمشروعات قومية عملاقة ومدن عالمية وشبكة طرق غير مسبوقة وحياة كريمة لكل المصريين، عملية إصلاح شاملة طالت كل القطاعات واستفاد منها كل الشعب مبادرات صحية أنقذت حياة الملايين.
جيش تم تحديثه وتطوير قدراته ليصبح رقما عالميا، ورادعا لكل من يفكر في المساس بأمن مصر أو أرضها أو شعبها ومقدراته.. جيش بني على امتلاك أحدث الأسلحة وأقوى الأنظمة القتالية وأكفاً القدرات، تنوعت مصادر تسليحه حتى يزداد قوة في زمن لا يعترف إلا بالقوة ولا مكان فيه للضعيف العفى محدش ياكل لقمته . لهذا عندما تعلن مصر عن خطوط حمراء لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها لأن لدى مصر جيشا يعرف الجميع قوته وإمكاناته وشرطة امتلكت قدرات عصرية فى مكافحة الجريمة، وحماية الأمن.
نتحدث الآن عن جمهورية جديدة فيها البناء لا يتوقف، والإنتاج يتزايد والديمقراطية تترسخ والمواطنة تحتضن الجميع الكل أمام القانون سواء مصر تتسع للجميع، وتفتح أبوابها لكل من يريد ان يبني الحوار الوطنى رسالة واضحة بأن مصر تخطو نحو المستقبل برؤية جديدة غايتها الحرية والديمقراطية المدنية الحديثة والمشاركة الشعبية..
الشعب هو صاحب القرار والحق الأصيل في هذا البلد، كل هذا ما كان يمكن ان يحدث لولا 30 يونيو وصلابة الشعب ووطنية الجيش والشرطة وجسارة القائد دول كثيرة سقطت لأن شعبها لم يتمكن من الدفاع عنها ولم يتماسك من أجل بقائها، ولم تكن لديها مؤسسات وطنيه صامدة .. لكن الشعب المصرى بوعيه وإدراكه على مؤسسات دولته الوطنية كان حائط الصد العملاق الذي حطم المؤامرة وأفسد المخطط وغير المعادلة الدولية التي كانت تستهدف تدمير وإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط، فرض الشعب إرادته على الجميع واختار قائده بنفسه وسانده وخاض معه المعركة ضد كل محاولات الفتنة وصناعة الفوضى والخراب. هذه هي روح 30 يونيو التي استلهمها المصريون من حضارتهم وتاريخهم، ومن تضحيات أبائهم وأجدادهم ليعيدوا كتابة التاريخ مجددا على أرض التاريخ.
ولذلك ستظل التجربة المصرية ملهمة في خطواتها مبدعة في أفكارها، متجددة في إنجازاتها، تستند إلى أركان حقيقية وثوابت راسخة.
ورغم ان التحديات تزداد من محيط إقليمي مشتعل وحدود يحاصرها الخطر، وتهديدات مصيرية ووجودية لكن تبقى القوة فى التماسك الوطني، والعقيدة التي لا تتغير وعنوانها أن مصر دولة وجدت لتبقى. لقد صنعت دولة 30 يونيو الكثير من النجاحات وما زالت تواصل التحدى في زمن صعب، لأن قيادتها تؤمن أنه لا بديل عن هذا الطريق، أن تعمل وسط المخاطر وان تنجز رغم الظروف الصعبة، وأن تتحدى الصعب وترفض الاستسلام، القيادة التي رفضت ان تتعلل بمحاربة الإرهاب لتؤجل عملية البناء.. لن تقبل أن توقفها أي تحديات مهما كبرت عن استكمال مسيرتها لبناء الجمهورية الجديدة التي اتضحت معالمها وأصبحت واقعاً يراه المواطن.