الريف المصري، عشنا أيامه، وأزمانه، الوارفة واليانعة، زمان كان الصفاء والنقاء والإخلاص والإيثار، عناوين لابن الريف، لا فرق بين هذا وذاك، ولا بين الفقير أو الغني.. همزات الوصل التى كانت تجمع بينهم كثيرة، «الجدعنة»، بمعناها الشريف، والتى أصبحت بقدرة قادر «بلطجة» وخروج عن المألوف.. أين ذهبت هذه المنظومة، ومتى تعود إلى أحضان الريف المصري، عندما كان أحدهم يتألم، كان الجميع يعيشون نفس الألم القريب والغريب، وعندما كان أحدهم يفرح كانوا كذلك يفرحون.. اليوم تاهت هذه المعالم النبيلة، وانسلخت القرية المصرية عن الثوابت التى تربينا عليها، فلم يعد الصغير يقدّر الكبير ولم يعد الكبير يحنو على الصغير.. زمان كان من العيب أن ترى شابًا يمر على «الحج فلان» وهو يركب دابته، اليوم أصبح طبيعيًا ومألوفًا أن ترى شابًا فى ريعانه، وهو يجلس على قارعة الطريق، وقد وضع ساقًا على ساق، دون مراعاة لمنظومة الأخلاق التى تعارف عليها الناس، والتى تعلمناها من الآباء والأجداد، زمان عندما كان يموت أحد أبناء القرية، كان الجميع يعيش حالة من الحزن والألم، كانت الأفراح تؤجل نعم تؤجل بالعام وبالتالى كل مراسمهما، أما اليوم الفرح بصولجانه و»ديجيهاته» على مقربة من مراسم العزاء.
أصوات قارئ القرآن تتداخل مع أصوات الأغاني، فقد ذهب الحياء إلى غير رجعة، زمان كان من الصعب أن ترى جائعًا أو محرومًا، كنا نتناول وجبة العشاء التى تحتوى على الأصناف الخمسة من الطعام، فهذا الصنف من جارتنا فلانة، والآخر من «الحجة صابحة»، والثالث من «الحجة نبوية».. إلخ، ضرورات الحياة ومقومات المعيشة كانت موجودة عند الجميع وفى كل البيوت تقريباً، من خلال ثقافة الإنفاق الذى لا يتوقف، ومن كل ما تنبت الأرض الزراعية حق للجار والمسكين. زمان كانت القناعة والرضا زاد للجميع، وكانت القلوب صافية من الغل والحقد والحسد، ولم لا وقد عمرت بالحب والإيثار، ومساعدة الآخرين، وإن كانوا فى أقاصى القرية. أتذكر هذا المنظر الجميل عندما أرى خالتى فلانة وهى تحمل طاجن اللبن وعدداً من أقراص الجبن كامل الدسم وما تيسر من أرغفة الخبز الطازج والخارج لتوه من لهيب الفرن البلدى وتخفى ما تحمله بساتر طرحتها السوداء ثم تقوم بتركه أمام الباب حياء منها وأدباً، كان هذا السلوك يمتد إلى جميع البيوت فاليوم لك وغداً ترد الهدايا لا فرق بين فقير أو غنى فالكل كان يتسابق بتقديم المعونة للآخرين وأتذكر أن الجميع كان يتناول طعام الإفطار بالعيش الطازج إن لم يكن من عمل أهل البيت فهو قادم من أهل الحارة والجيران والجيرة قد تمتد إلى أقاصى القرية. جبر الخواطر وهو سلوك لم نعد نراه للأسف فى هذا الزمان كل ما يخرج من الأرض كان للجميع نصيب فيه وكان الناس يعيشون حالة من الرضا لم نكن نسمع التأوهات والأوجاع والخوف من الغد كما هو حاصل الآن لم يفرق صاحب العطاء بين القريب أو البعيد. زمان لا يمكن أن ننسى هذا المنظر المألوف، والنبيل عندما كان الناس يتجمعون قبيل مدفع الإفطار، يتسامرون فى كل ما هو خير، وكانوا يتراصون فى المساجد ليلاً، القلوب كما الأجسام. أما الآن فالتنافر عنوان حي، وواقعى والبغض قطّع كل الأواصر والجسور التى كانت، وما كان من علاقات طيبة فى الريف المصري. متى يعود الريف إلى أزمانه الوارفة واليانعة، وأدناها الحب الذى افتقدناه، والإخلاص الذى أصبح عملة نادرة.