فى اليابان يعانى أصحاب العمل كثيرا لإقناع العاملين فى مؤسساتهم وشركاتهم بالحصول على إجازة أو راحة ولو قصيرة من العمل المتواصل، وفى مجتمعاتنا العربية الأمر «معكوس» ومختلف، فالمعاناة هنا تكون لإقناع العاملين بالعمل، لتقليل الوقت الضائع، للسيطرة على حمى الإجازات التى لا تتوقف، لمواجهة التمارض والتحايل على الدوام بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، هذه هى القاعدة العامة، ولكن بالطبع هناك استثناءات بعضها شديد التطرف.
هناك كثيرون يعملون أكثر مما ينبغي، أكثر مما هو مطلوب منهم، أكثر مما تحتمل صحتهم. يعشقون العمل ويعتبرونه المتعة الوحيدة فى الحياة، تتصل عندهم ساعات الليل بالنهار، هم قلة بالتأكيد وبكل أسف، ولكنهم يستحقون الاهتمام. فإدمان العمل ليس اقل خطورة من إهماله أو التراخى فيه أو التحايل عليه، الأول يهدد صحة صاحبه، والثانى يهدد صحة المجتمع. و لأن علاج مرض الإهمال يحتاج إلى «استشارة» إدارية، بينما يحتاج مرض الإدمان الوظيفى أو العملى إلى استشارة طبية، فالرسالة هنا موجهة إلى مدمنى العمل… وهى رسالة علمية ومهمة وخطيرة، أو لنقل هى تحذير شديد اللهجة.
فقد توصل بحث علمى إلى أن الأشخاص الذين يعملون لأكثر من 60 ساعة فى الأسبوع، ولا يحصلون على قدر كاف من النوم والراحة، يتعرضون أكثر من غيرهم للإصابة بالنوبات القلبية. الدراسة التى أجراها باحثون وخبراء يابانيون وبريطانيون انتهت إلى أن العمل الطويل أو لساعات طويلة متصلة مع قلة النوم يسببان ارتفاع ضغط الدم، يزيدان معدل ضربات القلب، مما يضاعف احتمالات الإصابة بالنوبات القلبية.
المعروف أن معدل ساعات العمل فى بريطانيا أطول مما هو عليه الحال فى بقية بلدان أوروبا، وأن بريطانيا تعانى من ارتفاع كبيرة فى معدلات الإصابة بالنوبات القلبية. أما فى اليابان فإن معدل ساعات العمل هو الأعلى على الإطلاق فى العالم، ولعل هذا هو السبب فى اشتراك باحثين من البلدين فى إجراء هذه الدراسة حول التأثيرات الصحية للإفراط فى العمل.
الدراسة التى نشرت نتائجها مؤخرا فى مجلة «طب العمل والبيئة» شملت مئات الرجال اليابانيين الذين أصيب بعضهم بنوبات قلبية، وتبين أن الرجال الذين أصيبوا بنوبات قلبية كانوا يعملون ساعات عمل أطول وينامون فترات أقل مقارنة بأولئك الذين لم يصابوا بأمراض قلبية.
الدراسة كشفت أن الذين يعملون أكثر من 60 ساعة فى الأسبوع، هم أكثر عرضة بمرتين للإصابة بنوبة قلبية بالمقارنة مع من يعملون 40 ساعة أو أقل، كما يؤدى النوم خمس ساعات أو أقل لليلتين فى الأسبوع، إلى مضاعفة خطر الإصابة بالنوبات القلبية. وتتفق نتائج هذه الدراسة مع نتائج دراسات أخرى أشارت إلى أن الإجهاد المزمن يترافق فى نسبة كبيرة من الحالات مع اضطراب أداء القلب،
ويرجح بعض العلماء أن هذا التأثير ربما يرجع إلى حالة الاكتئاب التى يعانى منها من يدمنون العمل على حساب الأنشطة الحياتية الأخرى كالأنشطة الترفيهية والرياضية والعلاقات الاجتماعية وممارسة الهوايات وغيرها، فالاكتئاب يسبب اضطرابا فى النوم، وتدهورا فى مجمل وظائف الجسم.
ما يعنينا هنا هو وجود العلاقة وليس تفسير أسبابها، وما يهمنا هو مضمون الرسالة والذى يدعو مدمنى العمل إلى أن يرفقوا بأنفسهم، وأن يرحموا قلوبهم وقلوب من ينشغلون عليهم، فالعمل قيمة جميلة، ولكنه بالتأكيد ليس القيمة الجميلة الوحيدة فى الحياة.