دائمًا ما كانت الصحافة حاضرة بقوة فى المشهد السياسي، وربما كانت انعكاسا حقيقيا له، فهى لسان حال الناس، وبوصلة الرأى العام، ومن ثم فلا يمكن التأريخ لعصر- أى عصر- دون التطرق لحال الصحافة وأوضاعها، ومدى قوتها أو ضعفها..!!
لقد خاضت الصحافة معارك سياسية واجتماعية، جعلتها فى مرمى النيران..ولا أنسى أيامًا عشتها فى أعقاب أحداث يناير 2011 حين بادرت بتقديم استقالتى من رئاسة مجلس إدارة مؤسسة دار التحرير للطبع والنشر (الجمهورية) التى قضيت فيها أكثر أيام حياتي.. وكان لإصرارى على تقديم استقالتى أسباب موضوعية ثبت صحتها فيما بعد، وقد جاءت الإقالة الجماعية لجميع رؤساء مجالس إدارات ورؤساء تحرير الصحف القومية لتقدم برهانًا واقعيًا على صدق رؤيتى وسلامة موقفي؛ فليس منطقيًا أن يعبر الأشخاص أنفسهم عن مرحلتين مغايرتين لبعضهما البعض تمامًا، فالتجديف ضد إرادة الناس أو ضد المزاج العام للشارع ليس فى صالح الصحافة ولا صالح الدولة بأى حال..!!
ورغم تقديم استقالتى طوعًا وتقديرًا للموقف مرات عديدة ثم رفضها من قبل الجهات المعنية وقتها ..حتى تم قبولها بعد إصرار فإننى لم أتخل أبدًا عن دعم مؤسستى بل بذلت ما أستطيع من جهد لتبقى قادرة على النهوض برسالتها والوفاء بواجباتها سواء إزاء القراء أو العاملين فيها، حتى إننى اتصلت وقتها برؤساء المؤسسات الصحفية، وأكثرهم أحياء يرزقون، وقلت لهم: لقد طلبت أنا والزميل عبد القادر شهيب اجتماعًا مع وزير المالية للحصول على دعم للمؤسسات الصحفية القومية من صندوق الطواريء الذى خصصته الحكومة لمساعدة مؤسسات الدولة فى هذه الظروف الصعبة، وبالفعل استجابت وزارة المالية لطلبنا وبادرت أثناء الاجتماع بإيداع فورى لمبالغ الدعم فى حساب المؤسسات القومية فى البنوك، وتفاوتت مبالغ الدعم من مؤسسة لأخري؛ فبينما حيث حصلت دار التحرير على 10 ملايين جنيه ومثلها لمؤسسة الأخبار.. فقد حصلت الأهرام على 15 مليوناً بينما نالت كل مؤسسة من المؤسسات القومية الأخرى 5 ملايين جنيه.
لم أعبأ بسهام النقد والافتراء التى طالتنى قبيل ترك رئاسة مجلس إدارة دار التحرير، فالبعض ادعى أننى هربت من الميدان بتقديم الاستقالة..لكننى كنت راضيًا تماماً بما أفعل؛ فالمزاج العام للشارع كان يؤيد هذه الاستقالة ليس رفضًا لشخصى بل لكل من ارتبط بحكم مبارك ..والدليل أن إقالة جماعية أطاحت بكل القيادات الصحفية بعد شهرين اثنين من تقديم استقالتي، وهو ما لم تستوعبه تلك القيادات وقتها ظناً منهم أنهم قد يستمرون مع الأوضاع الجديدة رغم المطالبات المستمرة بضخ دماء جديدة تعبر عن المرحلة الجديدة بكل ما فيها.
وما إن تم قبول استقالتى حتى طاردنى الإخوان ضمن قيادات صحفية أخرى ضمت نحو 600 صحفى وقيادة صحفية، بسيل من البلاغات الكيدية لجهاز الكسب غير المشروع رغبةً منهم فى تصفية الحسابات مع كل القيادات الصحفية التى عملت فى عهد مبارك..وعندما جرى استدعائى لجهاز الكسب غير المشروع لم يجد، أى شبهة تستوجب التحقيق معى من الأساس، فضلاً عن احتجازي..ولا أنسى ما قاله يومها: «إحنا عندنا يا الدفع يا الحبس»، فقلت له: سيادة المستشار: ما التهمة التى تحقق فيها معي..هل لأنى جلبت موارد للمؤسسة من الإعلانات وحتى لو تحصلت منها على مكافأة.. هل هناك ما يجرِّم ذلك..؟!
لم يقف الأمر عند التحقيق بل فوجئت بقرار من النائب العام (الإخواني) وقتها بالحجز على أموالى وأموال أسرتى بالبنك دون أى ذنب ووفقًا للقانون صدقت المحكمة المختصة على ذلك القرار رغم أننى لم أعرض عليها أصلاً..!!
وتقدمت بالتماس قانونى جرى النظر فيه بعد 6 أشهر وقدمت ما يثبت براءتى من كل الادعاءات وأننى لم أتقاض من المؤسسة مليماً لا أستحقه، وأن ما أملكه هو نتاج لشغلى وتأليفى عددًا من الكتب وبالفعل حكمت المحكمة لصالحى وقد تمت تبرئتى تمامًا من جهاز الكسب غير المشروع ونيابة الأموال العامة بعد قرار المحكمة.
فماذا كسب الإخوان من جرجرة القيادات الصحفية للمحاكم.. وإذا لم يكن ذلك بدافع الانتقام وتصفية الحسابات فماذا كان الدافع والغاية من اتهام الأبرياء ومحاولات تلويث السمعة لكل من ارتبط بعصر مبارك..؟!
وأحمد الله الذى لا يرضى بالظلم وهو الحكم العدل الذى أحصى كل شيء عدداً وأحاط بكل شيء علماً..وقد قال لدعوة المظلوم.. «وعزتى وجلالى لأنصرك ولو بعد حين».. فقد ينساك القريب..ويهجرك الصديق.. ويجحد فضلك من أسديت إليه المعروف..وقد تقسو عليك الدنيا..لكن رحمة ربك وحدها تحتضنك دوماً فى الشدة..وتملأ قلبك بالطمأنينة والسكينة وتغمرك بالأمل والتفاؤل وتضيء لك ظلمات الطريق الذى أطفأه ظلم العباد بعضهم لبعض ..فما أجمل أن ترعاك عناية الله وتمتد إليه لتدفع عنك كيد الخصوم وشماتة اللئام وأذى الأشرار لتقول لك: اطمئن إن عدل الله موجود لا يغيب لحظة عن الوجود.. سبحانه مالك الكون، مدبر الأمر يقول لعباده» ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم» (فاطر:2).
ترى هل كانت القيادات الصحفية تستحق كل هذا التعسف.. رب ضرة نافعة.. لقد كانت البراءة تاجًا فوق الرءوس..وحكم القضاء هو عنوان الحقيقة التى لم يخالجنى فيها أدنى شك..ليتنا نتعلم من دروس الأيام والأحداث.. فتلك أهم سمات الأمم الحية!!