لم تعرف البشرية على مدى التاريخ.. وقوف رجال شرطة باسلحتهم التقليدية.. امام جيش اقوى الإمبراطوريات فى ذلك الوقت.. جيش مسلح بأحدث الأسلحة واعتاها.. رافضا تسليم مدينة للعدو.. المحتل الغاصب.. كما فعل رجال بوليس الإسماعيلية يوم الجمعة 25 يناير 1952 ليسجلوا اعظم ملحمة وطنية بأحرف بارزة من النور.. فى سجل التاريخ الناصع البياض.. تصوروا حوالى مائة جندى وضابط بوليس يتصدون لحوالى 1000 جندى وضابط انجليزى باسلحتهم ودباباتهم السونتريون الحديثة ومدافع الهاون الثقيلة.. بينما يحمل رجال البوليس بنادق اللى انفيلد.. لكنهم يحملون فى نفس الوقت وطنية وعشقاً لتراب وطنهم.. جعلتهم يحملون ارواحهم على اكفهم.. مفضلين الاستشهاد.. عن سقوط مدينة الإسماعيلية فى ايدى العدو.. وقف رجال البوليس بصدور عارية.. لا يهابون الموت.. امام قوة جبروت العدو الإنجليزي.. ولابد ان اعترف بأن الاستعمار لا يتغير.. نفس الاسلوب يتكرر فى غزة.. ولأننى من ابناء الإسماعيلية.. فقد سمعت وقرأت عن قصص وحكايات.. بطولات ابناء بلدى ضد المستعمر البريطانى وعن أساليب القتل والتعذيب والاعتقال للفدائيين وما حدث من اعتداء سافر على مبنى محافظة الإسماعيلية.. وضربها بالمدافع والدبابات.. وسقوط سقف المحافظة وتهدم جزء منها على رءوس رجال البوليس.. هو نفس ما يقوم به العدو الإسرائيلى فى غزة.. الفارق الوحيد هو استخدام إسرائيل للطيران.. بالاضافة إلى اسلوب الابادة الجماعية لأبناء غزة.. وبتعبير ادق.. فإن ما فعله الجيش الإنجليزى المستعمر من اعتداء وقذف وهدم مبنى محافظة الإسماعيلية.. يكررها بعد 72 سنة المستعمر الإسرائيلى فى غزة.. ببساطة انجلترا التى كانت تستعمر مصر فى ذلك الوقت قررت احتلال مدينة الإسماعيلية.. وطرد رجال البوليس المصرى رمز تواجد السلطة المصرية منها.. وعندما رفض.. قررت هدم مبنى المحافظة على رءوس كل من فيها من ضباط وجنود الشرطة.. وكانت النتيجة استشهاد 50 بطلا من رجال البوليس.. وأصيب حوالى 80 جريحا.. بينما جاءت خسائر الإنجليز 13 قتيلا و12 جريحا.. وهذه حصيلة معركة استمرت ٩ ساعات متواصلة.. مازالت صدى كلمات النقيب البطل مصطفى رفعت.. عالقة فى اذهان كل وطنى غيور على بلده : لن يستلم البريطانيون منا الإسماعيلية.. إلا على جثثنا.. وظل يقاوم مع جنوده.. حتى آخر رصاصة معهم.. ليقف الجنرال اكسهام مؤديا التحية العسكرية.. لهم لحظة خروجهم من مبنى المحافظة.. مرفوعى الرأس.. ليظل يوم 25 يناير 1952 تاريخا للوطنية والفداء.. ويوم توقيع اتفاقية الجلاء ( خروج المستعمر الإنجليزى من مصر) وقف الرئيس الراحل جمال عبدالناصر فى يوليو 1954 معلنا : اننا كنا نراقب دائما ايام القتال.. كيف كان يكافح رجال البوليس العزل من السلاح.. رجال الإمبراطورية البريطانية بأقوى الأسلحة.. وكيف صمدوا ودافعوا عن شرفهم وشرف الوطن.. كنا نراقب كل هذا.. وكنا نحس ان الوطن الذى يوجد فيه هذا الفداء وتوجد فيه هذه التضحية.. لابد أن يمضى قدما الى الامام.. ولابد ان ينتصر.. لقد راقبنا معركة الإسماعيلية.. وكان ذلك يدفعنا الى الامام.. وذلك بدفاعكم واستشهادكم فى الإسماعيلية.. وبقى ان اقول : ان هذه الملحمة الوطنية.. انضم اليها ابطال منهم المرحوم سالم القاضى أول مدير مصرى لاسعاف الإسماعيلية.. ماذا فعل ؟! عندما رفض الجيش الإنجليزى دخول سيارات الاسعاف لمبنى المحافظة لعلاج من اصيب من رجال البوليس.. قفز سالم القاضى الى سيارة إسعاف وقادها بنفسه.. ولم يستجب للضباط الإنجليز وانطلق من امامهم الى المحافظة.. وهنا أطلقوا عليه النار.. ليصاب سالم القاضى بطلقة رصاص فى يده اليسري.. ولكنه لم يتوقف حتى وصل بسيارته الى مبنى المحافظة بالرغم من الحصار المفروض عليه.. وقام بعلاج الجرحي.. ونقل بعضهم للمستشفي.. والمفاجأة المذهلة ان سالم القاضى كان يحمل داخل سيارته أسلحة وذخائر لرجال البوليس.. حصل عليها من الفدائيين.. منحه الرئيس جمال عبدالناصر.. وسام الاستحقاق ونوط الشجاعة.. معركة الإسماعيلية افرزت نماذج فريدة معجونة بالوطنية وعشق الوطن.. منهم ملازم ثان فؤاد الدالى الذى اصيب بشاظية استقرت فى جمجمة رأسه.. واخرى فى قدمه ومع ذلك استمر يقاتل حتى نهاية المعركة.. قرر الاطباء الابقاء على الشاظية فى اسفل الجمجمة.. كما هي.. حتى لا يفقد الدالى اى حاسة من حواسه.. ليعيش بها البطل مدى حياته.. كأعظم وسام يحصل عليه مخلوق.. وبعد 20 سنة يحصل الدالى على رتبة اللواء.. ويعود للعمل فى الإسماعيلية.. حكمدارا لها.. ومن حسن حظى ان التقيت به فى ذلك الوقت وحكى لى ادق تفاصيل هذه المعركة.. بقى ان نعرف.. ان القوات الانجليزية وافقت على اهم شروط رجال البوليس المصرى مقابل خروجهم من مبنى المحافظة.. عدم نزع علم مصر من أعلى مبنى المحافظة.. وهكذا خرجوا ورءوسهم مرفوعة.. ادعو معى بالرحمة لأبطال معركة العزة والكرامة والشرف:
المقدم حسان ابو السعود – الرائد مصطفى رفعت – النقيب عبد المسيح مرقص – النقيب مصطفى عشوب – النقيب صلاح ذو الفقار – ملازم ثان فؤاد الدالي.. انهم فى وجداننا مدى الحياة.