أربع مرات منعت أمريكا فيها وقف إطلاق النار، وكانت كل مرة سبباً فى تضاعف أعداد الشهداء والمصابين من الجانب الفلسطينى الذين كان يمكن الحفاظ على حياتهم
خلال أسبوع واحد، تحولت مبادرة الرئيس الأمريكى «بايدن»، التى أعلنها فى الحادى والثلاثين من شهر مايو، لوقف الحرب فى غزة، إلى قرار صدر من مجلس الأمن الدولى بإجماع أعضائه الدائمين وغير الدائمين، عدا روسيا التى امتنع مندوبها عن التصويت.
القرار، فى مجمله، يدعو إلى الوقف الفورى لإطلاق النار، وإزالة العقبات التى تعترض عملية إنفاذ المساعدات الإنسانية للفلسطينيين فى قطاع غزة، ويتضمن ثلاث مراحل، مرحلتين للمفاوضات حول تبادل إطلاق سراح الرهائن والأسرى بين الجانبين الفلسطينى والإسرائيلي، وانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع، ومرحلة ثالثة لإطلاق عملية شاملة لإعادة الإعمار ووحدة الأراضى الفلسطينية وحل الدولتين.
وتجرى هذه المراحل من خلال الوسطاء الدوليين الثلاثة: مصر وقطر والولايات المتحدة.
القرار، عملت الإدارة الأمريكية على حشد التأييد والدعم الدوليين له قبل وبعد صدوره، واستغلت تعطش المجتمع الدولي، شعوباً وحكومات لرؤية لحظة تتوقف فيها أنهار الدم الفلسطينى فى غزة جراء حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية، لكى تتعجل صدور القرار حتى قبل أن يكتمل.
وقد أشرت فى مقال الخميس الماضى إلى سبب هذه العجلة الأمريكية، وإعلان الرئيس الأمريكى للمبادرة بنفسه، وقوله: «حان الآن وقف الحرب فى غزة»، تعبيراً عن أزمة داخلية فى أمريكا، ومثلها فى إسرائيل، نتيجة أنه بعد تسعة شهور من القتل والتدمير والإبادة، ومائة وعشرين ألف شهيد ومصاب من الفلسطينيين، لا يرى الطوفان ضوءاً فى نهاية نفق الحرب يبشر بتحقيق أهدافها.. بينما تداعياتها السلبية، وتوابعها المستقبلية أكبر مما تستطيع الدولتان احتماله.
لذلك جاء قرار مجلس الأمن غير واضح ولا مكتمل فى العديد من جوانبه، ولعلها أول مرة يتعرض مشروع قرار إلى إضافات وتعديلات بالحجم الذى تعرض له هذا القرار، وأن تكون له شبه «مذكرة تفصيلية» أو تفسيرية لا تعرض على أعضاء المجلس قبل أو عند التصويت عليه، ولا يعرفها سوى الولايات المتحدة مقدمة المشروع.
لقد كان ذلك، ومازال، يستدعى الالتفات إلى الموقف الروسى من القرار وامتناع مندوبها عن التصويت عليه، فى وجه إجماع من بقية أعضاء مجلس الأمن، وكثير من دول العالم خارج المجلس.
لقد أعلن مندوب روسيا أمام المجلس عقب التصويت، أن بلاده امتنعت عن التصويت على القرار لأن لديها عدداً من الأسئلة بشأنه.. وأوجزها فيما يلي:
1 – القرار يرحب باتفاق معين لاتزال معالمه النهائية مجهولة لأى أحد، ربما باستثناء الوسطاء، ولم يتم إطلاع المجلس على تفاصيله.
2 – لا يوجد وضوح بشأن موافقة إسرائيلية رسمية على الصفقة التى اقترحها الرئيس الأمريكي، وسط تصريحات عديدة من إسرائيل حول استمرارها فى الحرب حتى النصر الكامل على حماس.
3 – روسيا على اقتناع بأنه ليس من المناسب أن يوقع مجلس الأمن على اتفاقات دون ضمانات، ليس فقط لتنفيذها على الأرض، بل وأيضاً بدون فهم واضح على الأقل لموقف الأطراف نفسها منها.
4 – لم نصوت ضد القرار لأنه يحظى بتأييد العالم العربي.. لكن فى نفس الوقت تظل ملاحظاتنا عليه قائمة وتتطلب إجابات.
وحينما يكون هذا موقف دولة بحجم روسيا، عضو دائم بمجلس الأمن، وصديقة للعالم العربي، ومؤيدة على طول الخط للقضية الفلسطينية، فلابد أن يستدعى هذا انتباهنا، بأن القرار جرى تمريره «بالجملة» بينما الشيطان يكمن دائماً فى التفاصيل.
فالقرار مثلاً لم يحدد توقيتاً ملزماً للطرفين لوقف إطلاق النار، لأن عبارة «الوقف الفوري» لا تعنى شيئاً بالنسبة لإسرائيل.
ولم يحدد آلية إقليمية أو دولية، سواء لتنفيذ الوقف الفوري، أو لمتابعة التزام الطرفين به طوال مرحلتى المفاوضات.
ولم يتضمن ما يجب عمله إزاء الطرف الذى لم يلتزم بالوقف، أو انتهكه بعد الالتزام به.
هذه فقط بعض «الإجراءات التنفيذية» التى لم يشملها القرار، وربما شملتها مسودة الاتفاق.
المهم.. فور صدور القرار، رحبت به السلطة الفلسطينية، ووصفه مندوبها فى مجلس الأمن السفير رياض منصور بأنه «خطوة على الطريق الصحيح».
وأصدرت حركة «حماس» بياناً رحبت فيه بالقرار، وأكدت استعدادها للتعامل «بإيجابية» مع أى قرار أو مبادرة تؤدى إلى وقف الحرب وإنهاء الاحتلال.
هذا موقف الجانب الفلسطيني..
بينما خرجت تصريحات من إسرائيل تؤكد استمرار الحرب حتى تحقيق أهدافها النهائية المعلنة.
المفارقة الغريبة حدثت مع بدء جولة وزير الخارجية الأمريكى «بلينكن» فى المنطقة، والتى بدأها بزيارة القاهرة غداة صدور قرار مجلس الأمن.
ففى مطار القاهرة الدولي، وعند مغادرته فى الطريق لإسرائيل ـ محطته التالية فى الجولة، دعا بلينكن «حكومات المنطقة» إلى أنهم إذا كانوا يريدون وقف إطلاق النار، فعليهم الضغط على «حماس» لتقول «نعم» لمقترح الهدنة الذى أيدته جميع الدول فى المنطقة والعالم، بالإضافة إلى المنظمات الدولية، كما قبلت به إسرائيل!! والشاذ الوحيد فى هذه اللحظة هو «حماس»!!
وأضاف بلينكن: إن الغالبية العظمى من الناس، سواء فى إسرائيل أو الضفة الغربية أو غزة ترغب فى مستقبل يعيش فيه الإسرائيليون والفلسطينيون فى أمن وسلام!!
الآن، أصبحت أمريكا وإسرائيل حمامتى سلام.. الأولى تكافح من أجل وقف الحرب، والثانية تؤيدها.. والشاذ الوحيد هو المقاومة الفلسطينية المشروعة، والتى يجب الضغط عليها لتقبل!
الآن، وبعد أربع مرات على مدى ثمانية شهور، تتفق فيها إدارة المجتمع الدولى ممثلاً فى مجلس الأمن، مع رغبة الشعب الفلسطيني، سلطة ومقاومة، على ضرورة وقف إطلاق النار ـ ولو لأسباب إنسانية ـ فتتصدى أمريكا لهذا الإجماع وتستخدم الفيتو فى كل مرة لمنع صدور قرار بوقف إطلاق النار لأن إسرائيل لم تشبع بعد من المجازر البشرية والإبادة الجماعية والتدمير الكامل والشامل لكل مقومات الحياة الإنسانية!
أربع مرات منعت أمريكا فيها وقف إطلاق النار، وكانت كل مرة سبباً فى تضاعف أعداد الشهداء والمصابين من الجانب الفلسطينى الذين كان يمكن الحفاظ على حياتهم، حتى وصل العدد اليوم إلى أكثر من مائة وعشرين ألفاً.
إن التضليل وقلب الحقائق ليس جديداً على شعوب المنطقة، ولكنه ينبئ إلى أن مجرد إصدار قرار من مجلس الأمن ليس سوى نقطة بداية، وأن أمامنا طريقا طويلا من الحرب الدبلوماسية الذى يحتاج إلى أكبر حشد دولى من الحكومات والشعوب لإنجاز الشرعية والعدالة الدولية.
وبالمناسبة: هل أوقفت إسرائيل إطلاق النار؟!