سيرة منسية لأم كلثوم
بيت عمدة طماى الزهايرة كان أول مسرح تقف عليه أم كلثوم ليسمع أهل البلد صوتها

كتب : محمد جلال فراج
قبل أن تقرأ
فى الحلقة الأولى من المذكرات بدا أن بلدة طماى الزهايرة كانت تتجهز لحادث جلل بمولود جديد فى بيت الشيخ إبراهيم إمام مسجد القرية ومنشدها، وحكت الست عن تلك الرؤية التى جاءت لأبيها قبل ولادتها مبشرة فى شكل ستنا أم كلثوم بنت الرسول تبشره بقدوم خير وفير له، وهى البُشرى التى جعلت الأب يقرر تسمية وليدته المرجوة أم كلثوم بدلا من «نصرة» الذى كان قد اتفق عليه مع الأم قبل الولادة، ورأينا كيف اكتشفت الأم موهبة ابنتها بالصدفة وأخبرت الأب وثم كانت المؤامرة بينهما عبر تشجيع الأم لها على تقليد أبيها ويسمعها هو فى الخفاء دون أن تدرى أنه يعرف، وهو ما حدث لتبدأ رحلة الطفلة فى كنف أبيها يعلمها ويدربها وهو ما سنراه بالتفاصيل فى تلك الحلقة التى تتناول فترة مهمة جدا فى حياة أم كلثوم، نستطيع أن نطلق عليها فترة النقش على حجر الموهبة المتجذرة داخل الطفلة، وسنرى كيف بدأت خبيئتها العظيمة تظهر رويدا رويدا وتتسع رقعة مستمعيها وجمهورها حيث لازمت أبيها فى الموالد والليالى لتصير من ضمن بطانته مع أخيها خالد، ثم تطور الأمر وتبدلت الأدوار بناء على طلب الجمهور، ورجع الأب راضيا وفخورا خطوتين إلى الخلف ليصير هو البطانة ويدفع بنته الطفلة لتتصدر المشهد وتكون هى المنشدة، وتتحول بنت الشيخ إبراهيم البلتاجى فى فترة قليلة إلى حديث البلدة الصغيرة والقرى المجاورة ومن مديرية السنبلاوين إلى البحيرة إلى الشرقية.
وظهرت أمارات النبوءة القديمة بالخير الوفير الذى يعم على الأسرة بقدوم أم كلثوم، وصارت فرقة الشيخ إبراهيم البلتاجى وبنته أم كلثوم هى حديث القرى والنجوع وهدفهم الأول لإحياء الليالى والأفراح بمقابل مادى لم تكن تحلم به ثومة التى أمسكت عملة «الجنية» لأول مرة فى حياتها وتصف فى تلك الحلقة إحساسها بتلك اللحظة.
الجميل الذى ستلاحظه هنا أن موهبة الطفلة المعجزة لم تعد قضية أبيها الشيخ إبراهيم البلتاجى المنشد و«الصييت» الكبير، لكنها صارت قضية القرية بأكملها من أول العمدة والأعيان وحتى الأطفال، وأصبح من حق الجميع أن يخططوا لها ويتفقوا على الليالى التى تحييها، ومع الوقت صارت الليلة لأول مرة فى شكل حفل له تذاكر درجة أولى وثانية وثالثة على يد أحد تجار البلدة تتذكر أم كلثوم اسمه جيدا واسمه «حسن أفندى حلمى».. ويتتابع النجاح مع مرور سنوات الطفولة سريعا حتى قاربت البنت الصغيرة على ملامسة المراهقة لتتحول البنت إلى فتاة على حافة الأنوثة.
عن كواليس تلك السنوات القصيرة تحكى أم كلثوم ويسجل وراءها ابن أختها محمد الدسوقى ومعه صلاح درويش صحفى الجمهورية.. هيَّا بنا نقرأ
اكتشفت الأم مواهب الطفلة.. فأخبرت زوجها الذى شجع على استمرار أم كلثوم فى تقليده دون أن تحس ذلك.. وذات يوم تسلل الشيخ إبراهيم إلى المنزل.. واختبأ فى مكان وشاءت الصدف أن يكون قريباً من الطفلة، التى وقفت تقلده بالصوت والحركة.. وهى تردد بعض أجزاء التواشيح التى حفظتها منه.. وأحس الوالد بأن فى صوت الطفلة شيئاً جديداً، لم يتعوده.. فيه عذوبة.. وحلاوة.
وظهر الشيخ إبراهيم لابنته.. فانتابها الخوف.. وارتعدت فرائصها.. ووقفت تبكى أمامه:
«حرمت والنبى يابا.. دى آخر مرة هعمل فيها كده»
ولم يتحرك الوالد من مكانه.. وحاول أن يخفى عن ابنته الدموع التى ملأت مآقيه.. وبدأت تنحدر على خديه.. فتقدم من «أم كلثوم» التى وقفت ترتعش.. وضمها إلى صدره.. وبعد فترة من الصمت.. أفاق الشيخ على صوت زوجته.. وهى تناديه:
«إيه اللى حصل يا شيخ إبراهيم؟»
فقال.. فى لهجة فرح:
ولا حاجة يا فاطمة.. أصل ضبطت أم كلثوم بتقلدنى
فضحكت الأم.. بينما أسرعت «سيدة».. التى تكبر أم كلثوم بعشرة أعوام.. لتشاهد ما سيحصل لأختها.. التى كانت تحبها بجنون.
وتقدمت «سيدة» من والدها ترجوه..
خلاص يابا.. المرة دى.. موش حتقلدك تانى.. والنبى
فابتسم الشيخ إبراهيم.. ونظر إلى أم كلثوم وسيدة ، وقال لهما:
مافيش حاجه.. وعايز أقولك يا أم كلثوم خليك على طول قلدينى فى كل وقت.. وأنا النهارده بعد ما شفتك.. راح احفظك التواشيح والقصائد كلها.. هاخدك معايا الموالد والليالى.. أنا موش ناسى.. إن كل الخير اللى إحنا فيه النهارده جه على قدومك.
وقاطعته ابنته سيدة:
آه والنبى يابا.. لك حق
أحسن أب فى البلد
وفرحت الطفلة أم كلثوم.. لم تسعها الدنيا.. ونظرت إلى والدها وهى تقفز من الفرحة :
صحيح والنبى يابا.. حاروح معاك الموالد والليالى.. صحيح حتحفظنى الحاجات اللى انت بتقولها.. ربنا يخليك.. يا أحسن أب فى البلد.
ومن هذا اليوم.. اتجه اهتمام الشيخ إبراهيم لابنته أم كلثوم .. وفى بداية الأسبوع .. أخذها إلى كُتَّاب الشيخ عبدالعزيز بالقرية.. لتتعلم الكتابة والقراءة.. وكانت تذهب مع أخيها خالد.. الذى سبقها بحوالى 3 شهور.
فظلت بجوار خالد لا تلعب مع أحد ولا تتحدث إلى أحد.. كل همها.. أن تفك الخط لتكون مثل والدها.. الذى وعدها بذلك.
وفى مدة قصيرة.. كانت الطفلة تكتب وتقرأ.. فأثارت انتباه سيدنا الشيخ عبدالعزيز.. شيخ الكُتَّاب فازداد اهتمامه بها ورعايته لها، خاصة وأنها بنت الشيخ إبراهيم.. صديق عمره..
ولم يطل الوقت بالشيخ عبدالعزيز.. فقد توفى.. قبل أن تكمل أم كلثوم.. حفظ جزء «عم».
عيال تانيين
تقول كوكب الشرق..
«حزنت كتير قوى على سيدنا» .. بكيت كواحدة من أهله.. لأنه كان فى منزلة «أبويا».. فكرت أن مافيش «سيدنا» تانى غيره فى الدنيا.. واننى لن أكمل المشوار.. اللى «أبويا» خلانى رحت «الكُتَّاب» علشانه.. وكان «أخويا» الشيخ خالد حزين هو الآخر.. قعدنا ثلاثة أيام فى البيت لغاية ما المرحوم والدى شاف لنا كُتاب تانى فى بلد مجاورة لينا.. اسمها «عزبة الحوال» كنت بمشى كل يوم أنا وأخويا.. حوالى ثلاثة كيلو.. كنا بنقوم بدرى.. علشان نكون فى الكتَّاب الساعة سبعة الصباح زى ولاد العزبة.. ونقطع الطريق وإحنا رايحين وإحنا راجعين.. مكناش لوحدنا فى الكُتَّاب بتاع عزبة الحوال.. كان معانا عيال تانيين من قرايبنا.. كنا طول السكة نلعب مع بعض.. لعبة حلوة خالص.. علشان ميطولش الطريق علينا.. كان كل واحد فينا يشيلوه الباقيين.. من عمود التليفون للعمود التانى.. كنت أنا البنت الوحيدة اللى فى الشلة كانوا بيشلونى كتير.. لأننى دايما.. كنت آخد دور أخويا.. لأنه كان بيتنازل عنه ليا.. وفى ثلاث سنوات وشوية شهور.. حفظت أغلب أجزاء المصحف عن ظهر قلب.. كان عمرى فى الوقت ده لا يتعدى 8 سنين ونصف السنة».
..وكان هذا النبوغ المبكر لأم كلثوم.. حديث أهل قرية «طماى الزهايرة».. باعتبارها ظاهرة فريدة.. وموهبة خارقة.
وتتحدث أم كلثوم عن «سيدنا» الجديد.. واسمه «الشيخ إبراهيم» أيضاً.. على اسم والدها:
كان «سيدنا» الشيخ إبراهيم بيحرص دايما وأنا باسمع قدامه بعض «السور» أن اقرأها بالترتيل.. وفى هدوء.. غير كل «الولاد» اللى معايا فى الكُتَّاب.. وفى أول الشهر جه «أبويا» الله يرحمه يدفع «الشهرية» بتاعتى أنا وخالد.. فسمعت« سيدنا» بيقوله.. ابن الوز عوام يا شيخ إبراهيم.. بنتك صوتها حلو.. يا سلام لو خلتها تقرأ القرآن.. وتجوده بعد ما تتم المصحف.. وابتسم «أبويا».. ولم أعرف ليه كان بيضحك وقتها.. وبص «سيدنا» لأبويا.. وأنا كنت واقفة أنا وأخويا جنبه فى أيدى المصحف.. وأخويا خالد على يمينى.. وسمعت «سيدنا» وهو بيقول لأبويا:
«أنا عايزك تفكر قوى يا شيخ إبراهيم فى الحكاية دى.. اوعى تنسى»
ورد عليه المرحوم والدى:
ربنا يعمل اللى فيه الخير.. على كل حال.. سيبنى برضه أفكر فى الحكاية دى شوية
السر الكبير
وفى السكة وإحنا راجعين مع أبويا.. سألته كان بيبتسم ليه.. قاللى وهو بيرفعنى بين يديه ويضمنى إلى صدره:
لازم يعنى تعرفى كل حاجة.. دا سر يا بنتى
ولما رجعنا البيت حكيت كل اللى حصل واللى سمعته لوالدتى.. وتانى يوم.. قالت لى:
أنت عارفة أبوكى كان بيبتسم ليه؟.. افتكر المنام اللى شافه يوم ما اتولدتى
ومتكلمتش بعد كده..!
ولم يطل تفكير والد أم كلثوم.. فقد اقتنع أخيراً بضرورة الاستفادة من مواهب ابنته.. فطلب من الشيخ إبراهيم شيخ كُتَّاب «عزبة الحوال» أن يتولى «الطفلة» برعايته حتى تتمكن من تلاوة القرآن دون تحريف.
وأثبتت الطفلة نبوغاً ومهارة.. أذهلت «سيدنا» وكل من سمعها فى «الكُتَّاب».. من أهالى «عزبة الحوال» وهى تجود القرآن بالطريقة الصحيحة.. وفى التاسعة من عمرها سمعتها صديقة الطفولة.. بنت شيخ قرية «طماى الزهايرة» وكانت تكبرها بحوالى ثلاثة أعوام.. ولم تكذب خبراً.. فأسرعت إلى بيتها فى شرق البلد وأبلغت والدها.. الذى تطوع بإذاعة الخبر بين أهل القرية.. وتطوعت زوجته بنشره بين «الحريم»
وبعد يومين.. فوجئت السيدة «فاطمة المليجى» بعدد من نساء القرية ومن بينهن زوجة شيخ البلد وابنته.. تطلبن سماع صوت «المحروسة».. وتكررت هذه الزيارة عصر كل يوم مع ازدياد العدد.. وتعتبر هذه الأيام فى حياة كوكب الشرق.. هى التجربة الأولى لها فى مواجهة جمهور غير أفراد أسرتها الصغيرة.
وجاء الدور على رجال القرية.. فطلبوا من «العمدة» أن يتوسط لهم عند الشيخ إبراهيم.. لتحضر ابنته إلى «الدوار» ليسمعوا صوتها الذى لا حديث «للحريم» غيره وغير حلاوته.
..ورفض «الشيخ إبراهيم».. فى بادئ الأمر.. ولكنه وافق تحت إصرار وإلحاح العمدة.. فذهبت بنت التاسعة يرافقها أبوها إلى الدوار.. وفى غرفة الحريم.. قرأت القرآن ثم قدمت التواشيح.. بينما تجمع أهالى القرية شباباً وشيوخاً ونساءً فى الخارج حتى ملأوا الدوار والشارع المؤدى إليه.. الكل لا يصدق أن هذا الصوت هو صوت الطفلة أم كلثوم بنت الشيخ إبراهيم.. وفاطمة المليجى
تحت الأضواء
تقول أم كلثوم:
«من اليوم ده.. أصبح بيتنا.. بيجيه كل أعيان البلد.. والناس الصالحين.. كل واحد يطلب أن أروح بيته.. زى ما رحت بيت العمدة.. وكان أبويا الله يرحمه مايحبش يكسف حد».
وهكذا أحاطت الأضواء بأم كلثوم منذ طفولتها، لتحجب عنها كل مظاهر الحياة التى تتمتع بها بنت فى مثل عمرها.. لم تتعود الطفلة بنت التاسعة على الخروج بمفردها لأن العيون تلاحقها وتحسب خطواتها ولفتاتها فلزمت الدار.. وتقول أم كلثوم:
«كنت ما أخرجش إلا مع أبويا أو أمى.. وأحيانا أخويا.. اتحرمت من كل حاجات البنات اللى فى سنى زى الهدوم الملونة الزاهية أم نص كم.. مكنتش ألبس فى الوقت ده غير «الجلابية» اللى بتجرجر فى الأرض.. اللى لونها حشمة ولو خرجت لازم ألبس «الطرحة».. مكنش بيبان منى غير وشى بس»
واعتبر أعيان القرية ومشايخها.. أنهم جميعاً مسئولون عن مستقبل الطفلة «المعجزة» فأقنعوا الشيخ إبراهيم بأن يواظب على تدريبها وتعليمها التواشيح والقصائد الدينية، وأن يشركها معه فى الموالد.. لتتشرب منه الجرأة فى مواجهة الجماهير التى لم تتعود عليها من قبل.. خارج القرية الصغيرة التى ولدت فيها وتعرف كل أهلها.. تعرف طباعهم وأذواقهم.
وتردد الشيخ فى بادئ الأمر بحكم التقاليد السائدة، حيث لم توجد سابقة لفتاة أو امرأة وقفت بين الرجال فى الموالد والأفراح تنشد القصائد وتقدم التواشيح الدينية.
البطانة أول طريق المجد
ولم يطل تردده، بعد أن تأكد له أن فى أعماق ابنته موهبة تريد أن تنطلق وتعبر عن نفسها.. وبعقل رجل الدين بدأ يخطط للتجربة القاسية.. فأشرك أم كلثوم فى «البطانة» التى تصاحبه.. وهى عبارة عن مجموعة المشايخ التى تردد خلف المنشد بعض مقاطع القصائد والتواشيح حتى اليوم.. وكانت الفتاة ترتدى فى ذلك الوقت «العِقال» والعباءة البيضاء وجلباباً طويلاً وفوقه «بالطو» يشبه «الجبة»..
وكانت أم كلثوم خلال هذه الفترة تقرأ القرآن والتواشيح فى جلسات «الحريم» بمنازل العمد والأعيان أيام الموالد والأفراح. وكان والدها يعتبر ذلك نوعاً من التدريب.. والتجربة لمواجهة الجماهير بمفردها.
.. وبعد أن ازدادت شهرة بنت «طماى الزهايرة».. كانت المفاجأة فى إحدى قرى «إيتاى البارود».. فقد طلب الأهالى من الشيخ إبراهيم أن يسمعوا «أم كلثوم» فى إحدى قصائده.. وأمام الإصرار والإلحاح وقفت.. ومن خلفها «البطانة».. والدها على اليمين وشقيقها الشيخ خالد على اليسار.. كل منهما يشجعها.. وإن كان يمسك قلبه خوفاً من التجربة.
ومنذ انطلق صوت «الفتاة» خيم الصمت على الجمهور الكبير الذى امتلأ به «جرن» القرية.. وكلما انتهت استعادها الأهالى حتى مطلع الفجر.. ومن تلك الليلة لم يتمكن والدها أو أخوها من القراءة أو تقديم التواشيح والقصائد الدينية.
وقبل أن يغادر الشيخ إبراهيم وابنته القرية فى الصباح.. فوجئ بالعمدة والمشايخ يطلبون منه البقاء ليلة أخرى.. قامت فيها «أم كلثوم» بالعبء الأكبر، بناء على رغبة الأهالى.. فأثبتت جدارتها وأعلنت عن موهبتها الخارقة..
وأصبحت الطفلة المعجزة، موضع إعجاب الجميع، يطلبها الجمهور باستمرار فى الموالد والأفراح.. وفى كل ليلة من تلك الليالى كانت دموع الوالد تنهمر على خديه وهو يراقب ابنته أمام الجماهير فى ثباتها وجرأتها، وحُسن أدائها، كان يرى فيها الحظ والسعادة وهى تقبل عليه.
وثار شقيقا الشيخ إبراهيم.. لإشراكه الطفلة فى «البطانة» وفى إنشاد القصائد والتواشيح أمام الجماهير.. وهددوه بالمقاطعة.. ووجد نفسه فى حيرة.. وفضَّل أن يضحى بمستقبل ابنته حتى لا يخسر أخوته.. فحاول إقناع أم كلثوم بالابتعاد عن هذا الطريق.. فوافقت.. وقالت له:
«زى ما انت عايز يابا، أنا عمرى ما ازعلك.. أنا ماليش حد فى الدنيا غيرك.. وكل واحد بياخد على قد نصيبه».
نتابع الحلقة القادمة









