حين يذكر «لقب الست»، تكون هى وبلا منازع رغم رحيلها منذ 50 عاماً، وحين يذكر الغناء العربي قديمه وحديثه تكون هي علي قمته ولا أبالغ إذا قلت إذا كانت هناك أهرامات في العصر الحديث فى كافة المجالات، تكون هي في المقدمة هي الست أو السيدة أم كلثوم.. وقلت منذ فترة إننا نخوض حرباً شرسة لطمس وعينا الجمعي لنكون بعد ذلك لقمة سائغة أمام المتربصين بمصر، حرباً تحاول نزع هويتنا وطمسها بتشويه كل ما هو مصرى، والسؤال لماذا؟
لأن مصر بمفردها تاريخ وحضارة وكل متكامل.
والسؤال هل جاء فيلم الست الذي يتناول السيرة الذاتية لأم كلثوم ضمن هذه الحملة الممنهجة؟
تعالوا نناقش الفيلم لنصل إلي الإجابة.
> في البداية لا يمكن أن نقف أمام حرية الإبداع بأي شكل من الأشكال، لكن هذه الحرية ليست مطلقة إذا اصطدمت بثوابت الأمة، ولا تعني تشويه الرموز ووصمهم بالسوء من الأفعال والسلوك، وأهلهم بالعار بصفات لا تمت للواقع بصلة، ولا تاريخ وطنهم بالتزييف وإعلاء لملك وحقبة وسياسات قامت ضدهم ثورة ونجحت في تغيير خريطة العالم الثالث بل والعالم كله بدق آخر مسمارين في نعش الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية.
> مثلاً الفيلم محتشد بالمغالطات التاريخية المتعلقة بعلاقة أم كلثوم بأهلها ومتدثراً بتقنية ومهنية عالية لبريق السينما من المخرج مروان حامد، وهذا هو كلمة السر في وضع السم في العسل ليصل إلي الجمهور المتعدد الثقافات والوعي، الآن وغداً من خلال صناعة سحرية للوصول الي الهدف وهو فخ التشويه التاريخي للرمز وللعائلة والحقبة المهمة من تاريخ مصر.
> نعم السير الذاتية في السينما والدراما سلاح ذو حدين؛ فهي إما أن تخلد الرمز بصدق إنساني يتماس مع الواقع والتاريخ، أو تسقط في فخ «الدراما المصطنعة» علي حساب الحقيقة التاريخية.. هنا في فيلم الست.. المبالغة الدرامية نالت من صورة عائلة أم كلثوم، محولة واقعاً ريفياً محافظاً إلي مادة للصراع الذي قد يفتقر أحياناً للدقة والموضوعية.
> «الوالد».. الشيخ إبراهيم البلتاجي هو المعلم الأول والداعم الأساسي لموهبة ابنته، ورغم طبيعة المجتمع الريفي المحافظ في بدايات القرن العشرين، إلا أنه هو من اصطحبها للإنشاد بملابس الأولاد ليحميها اجتماعياً، لا ليقمعها فنياً.
> والمغالطة هنا تصوير الأب كعائق أو كشخصية خاضعة لسطوة العادات بشكل سلبي يظهر «ثقل الظل» علي طموح أم كلثوم، بينما الواقع يؤكد أنه خاطر بسمعته كمنشد ديني في مجتمع محافظ ليسمح لابنته بالوقوف أمام الجمهور، وكان هو «مدير أعمالها» الأول الذي آمن بأن صوتها هبة إلهية لا يجوز حبسها.
وتحويل هذا الدعم إلي صورة «السلطة الأبوية الخانقة» قد يخدم الدراما التصادمية لكنه يظلم الحقيقة التاريخية للشيخ إبراهيم.
وتحويله إلي مستغل للدرجة التي تجعله يجبرها علي الإنشاد في ليلة عاصفة مطيرة لم تبق من الجمهور فرداً واحداً إلا حمار مسكين غنت له الطفلة أم كلثوم!!
وتوالت مشاهد الاستغلال بعد ذلك في الفيلم.
علاقات باهتة
> وعلاقتها بشقيقها «خالد إبراهيم البلتاجي، رفيق رحلة البدايات العضو الأساسي في تختها الصغير» تحول في الفيلم من السند إلي «الظل الباهت»، والشخصية ثانوية بل و»انتهازية» تعيش في جلباب نجاح شقيقته، متجاهلاً الدور الاجتماعي الذي لعبه كحماية لها في مجتمع لم يكن يتقبل خروج المرأة للفن بسهولة. هذا التشويه يكسر صورة «العائلة المترابطة» التي كانت الحصن المنيع لسومة ضد هجمات المنافسين في القاهرة.. بل علي العكس تحول إلي صاحب جيب جلابية مخرومة بالتشكيك في الذمة المالية له ولأبيه الذي قدمه الفيلم بالمستغل.
وقدم الفيلم الريف المصري كبيئة طاردة لا حاضنة، يتبرأ منه أولاده ومنهم أم كلثوم بالانتماء إليه الذي هو في حقيقة الأمر انتماء إلي الوطن..
و»طماي الزهايرة» هنا قيد ثقيل حاولت أم كلثوم الانفلات منه، بينما الحقيقة أن أم كلثوم ظلت طوال حياتها تفتخر بجذورها الفلاحية، واستمدت قوتها وشخصيتها القيادية من تلك الأصول…
> فلم تكن رحلة الست هي «الهروب نحو الأضواء» بالتمرد علي العائلة والقرية، بينما كان الواقع رحلة صعود جماعية شاركت فيها العائلة بكل ثقلها.
صراعات نفسية
> وأكبر إشكاليات الفيلم هي محاولة إيجاد «صراعات نفسية» مع الأهل لتبرير عظمتها اللاحقة.. والحقيقة أن أم كلثوم لم تنجح «رغم» أهلها، بل نجحت «بهم»، من البداية وحتي النهاية وإن أضيف لهم أشخاص جدد، سياسيون وموسيقيون وملحنون وأدباء وشعراء لم نجد لهم ظلاً في الفيلم، وتصوير العائلة كعقبات اجتماعية يقلل من شأن الذكاء الفطري للشيخ إبراهيم الذي أدرك بعبقرية ريفية أن ابنته مشروع قومي قبل أن تكون مجرد مطربة.
> نعم قد يكون فيلم «الست» قد نجح في الإبهار البصري واستحضار زمن الفن الجميل، إلا أنه سقط في فخ «الأمركة الدرامية» التي تتطلب دائمًا وجود «عدو داخلي» أو «عائلة معرقلة» ليظهر البطل في صورة المخلص.. وإذا كان الأمر متحققاً عند البعض، كانت أم كلثوم حالة استثنائية من التوافق بين الموهبة الفطرية والدعم العائلي المطلق ويتماثل معها عبدالحليم حافظ بشكل مختلف في التفاصيل، وأي محاولة للعبث بهذا الخيط التاريخي هي تشويه لقصة كفاح مصرية خالصة، وللدور المهم للبيئة المصرية.
أم كلثوم وثورة يوليو
> ونأتي إلي علاقة أم كلثوم بالسلطة السياسية، وتحديداً مع الزعيم جمال عبدالناصر وثورة يوليو، وكيف تم «تقزيم» أو تشويه هذه العلاقة مقارنة بالواقع التاريخي وما قدمته الدراما سابقاً من جهة وعلاقة ثورة يوليو بالإبداع والمبدعين ونهضة الستينات الثقافية من جانب آخر.
> إذا كان فيلم «الست» قد حاول تقديم قراءة «إنسانية» متحررة من القداسة، فإنه سقط في فخ التزييف للتاريخ من خلال تقديم علاقة أم كلثوم بجمال عبدالناصر «الذي جسد شخصيته الفنان عمرو سعد» بشكل يفتقر للعمق والندية التي كانت تميز هذه العلاقة الفريدة والسمات الشخصية لعبدالناصر الذي نجح في تجسيده من قبل أحمد زكي في فيلم ناصر 56.
> الفيلم صدر لنا علاقة الإذعان بين جمال عبدالناصر وأم كلثوم، فبدلاً من التحالف وتعامل القمم كان الإذعان والخضوع.. وكأن الثورة أو عبدالناصر «أملي» علي أم كلثوم توجهات معينة، أو أن استمرارها كان رهناً بقرار سياسي بحت بعد أزمة منع أغانيها في الراديو عقب الثورة مباشرة. ولم يحتف الفيلم بقرار عبدالناصر ضد هذا المنع ويُصور أحياناً أم كلثوم في موقف «المترقب» أو «الخاضع» لسطوة النظام الجديد.
علاقات مشروعين
>كاتب السيناريو والحوار لم يدرك كنه العلاقة بين ناصر وأم كلثوم، والتي كانت علاقة «مشروعين»؛ مشروع سياسي قومي ومشروع ثقافي وجداني.. عبدالناصر هو من ألغي قرار منع أغانيها «الذي اتخذه بعض الضباط الأحرار بسبب غنائها للملك» قائلاً جملته الشهيرة: «هل تريدون أن تحرموا الشعب من صوت أم كلثوم؟.. اهدموا الأهرامات فقد عاشت حقبة الملك». فقد كانت أم كلثوم «شريكاً» في الثورة، ولم تكن مجرد أداة لها.
لكن الفيلم يميل لتصوير القلق الشخصي لأم كلثوم من ضياع امتيازاتها الملكية، وكأن علاقتها بالثورة كانت «براجماتية» لتأمين مكانتها متجاهلاً أن أم كلثوم كانت تمهد للثورة قبل وقوعها بسنوات من خلال قصائد تحمل نفساً اشتراكياً ودينياً تمرداً علي فساد القصر (مثل «ولد الهدي» و»سلو قلبي»).. هي من ذهبت لمبني القيادة لتهنئة الضباط، وهي من تحولت لاحقاً إلي «سفير متنقل» للمجهود الحربي بعد 1967، وبجواز سفر دبلوماسي منحه لها عبدالناصر، وهو دور وطني لا يمكن اختزاله في «بخل» أو «تدخين»، أو خمر ، أو قرار اتخذه ضابط صغير، ألغاه فوراً عبدالناصر مثلما ركز الفيلم في بعض لقطاته.
> كان ناصر قائداً يحترم الفن، وأم كلثوم دولة فنية داخل الدولة، حيث كانت العلاقة بينهما مبنية علي الاحترام المتبادل والخدمة الوطنية وللدرجة التي جعلت ناصر يقوم بالصلح الفني بين محمد عبدالوهاب وثومة ليقدما لنا مجموعة من أجمل الأغاني ويتابع نشاطها مع الكثير من المتابعات الثقافية والفكرية..
> الفيلم يبحث عن «الثقوب» في الثوب الأبيض، فركز علي اللحظات الهامشية والمواقف الشخصية الصدامية، مما جعل ظهور الزعيم عبدالناصر يبدو «باهتاً» درامياً، ولم ينجح في تجسيد تلك الكيمياء التاريخية التي جعلت من صوت أم كلثوم وصورة ناصر وجهين لعملة واحدة هي «عصر القومية العربية» بالتفاف الجماهير حولهما حتي خارج العالم العربي.
> قد يري البعض أن تجريد الرموز من «هالتهم» هو حق مشروع للفن، لكن عندما يتحول هذا التجريد إلي «تشويه» وتزييف للحقائق الموثقة «مثل توقيت إلقاء بيان الثورة أو طريقة تعاملها مع فرقتها الموسيقية وشربها للسجائر فلم يبق إلا قيامها بالسكر في الحانات كمعادل موضوعي للأزمات التي مرت بها مثلما نري بعض الأفلام!
رؤية فانتازية
> ويقدم الفيلم أم كلثوم المستغلة باستغلال حاجة الموسيقيين للعمل معها في أخذ أصواتهم عنوة في انتخابات نقابة الموسيقيين لتفوز بأصوات المحتاجين وليس المؤيدين..
السقوط
> ويأتي مشهد البداية و»الماستر كي» الذي قدمه الفيلم و كأنه الهدف الذي حاول إخفاءه بواقعة سقوط أم كلثوم علي مسرح «الأولمبياد» في باريس بعد هزيمة 1967 كواحدة من أكثر اللحظات دراماتيكية في تاريخها، لكن الطريقة التي عالج بها الفيلم «هذه اللحظة أخرجتها من سياقها الإنساني والوطني لتضعها في إطار رمزي مثير للجدل.
> فهل سقوط «الأولمبياد» سقوط لـ «الست» أم سقوط «الدولة»؟
ذهبت أم كلثوم إلي باريس في مهمة وطنية مقدسة لجمع التبرعات لصالح المجهود الحربي بعد نكسة يونيو، والحفلة هنا «معركة سياسية» فنية وثقافية وحضارية لإثبات أن مصر لاتزال صامدة فنياً وثقافياً ومتوازية مع حرب الاستنزاف التي بدأها جيشنا بعد أيام ضد العدو ليتوج بنصر أكتوبر..
> لكن الفيلم حول «الواقعة» إلي «نبوءة بالفشل» بالتركيز علي لحظة تعثر أم كلثوم وسقوطها علي المسرح «بسبب اندفاع أحد المعجبين لتقبيل قدمها» بشكل سينمائي يوحي بأن هذا السقوط هو تجسيد لسقوط الدولة المصرية بأكملها في ذلك الوقت.. تم تصوير اللحظة ببطء درامي Slow Motion مع إضاءة خافتة، وكأنها «نهاية الحقبة» أو انكسار الكبرياء المصري أمام العالم خاصة بعد الحوار الخاطف من مدير المسرح بأن الحفل فني وليس سياسياً بعد تعالي الصيحات بين الجمهور بفلسطين ومصر.
> لم يظهر الفيلم أن سقوط أم كلثوم في باريس كان «سقوطاً جسدياً» عارضاً، لكن «الوقوف» الذي تلاه كان هو المعجزة.. نهضت «الست» في ثوانٍ، وبابتسامة الواثق أكملت وصلتها الغنائية، بل واستغلت الموقف لتمتص حماس الجمهور. فلم تكن لحظة ضعف، بل كانت لحظة «استعادة توازن» لمصر في قلب أوروبا.. لكن الوقت الطويل والحركة البطيئة في التصوير أرادت عكس ذلك!!
وركز الفيلم علي وجود بعض الشخصيات الدبلوماسية إشارة طبعا لدعمهما اللا محدود لإسرائيل في 1967 وقبلها طبعاً العدوان الثلاثي 1956 وكأن وجودهم ومتابعتهم لحظة سقوط أم كلثوم وتسليط الكاميرا عليهم لحظة تشفي، وعلي الجانب الآخر انحصر دور عبدالناصر في تدخين سيجارة!
> لم يكن حضور هؤلاء السفراء مجرد توثيق لجمهور الحفل، بل استُخدم كأداة درامية لإيصال رسالة «انكسار الدولة»، وتحويل المسرح لمنصة دولية للسقوط تحت أنظار «الخصوم والحلفاء» و»شماتة القوي العظمي» أسبابه تاريخية، أمريكا وإنجلترا في تلك الفترة 1967 علي طرفي نقيض مع نظام جمال عبدالناصر ودعمهما اللا محدود لإسرائيل، وهم يراقبون «سقوط» الهرم المصري «أم كلثوم» يرمز إلي انكسار المشروع القومي الناصري تحت أنظار القوي التي ساهمت أو باركت هزيمة 67.. والسقوط هنا لم يكن لجسد «الست»، بل كان سقوطاً لـ «القوة الناعمة المصرية» أمام القوي التي كسرتها عسكرياً.
> وتحويل المسرح في باريس كساحة حرب للقول إن مصر التي خُدعت في 5 يونيو، عادت لتسقط «بروتوكولياً» وجمالياً في باريس أمام العالم.
والواقع يدحض المغالطة السياسية المتمثلة في حضور السفراء العرب والأجانب لحفل أم كلثوم بباريس.. هو «اعتراف بشرعية الدولة المصرية» وبقوتها الثقافية رغم الهزيمة.. السفراء لم يأتوا ليشاهدوا سقوطاً، بل جاءوا لأن «الست» كانت تمثل «دولة داخل الدولة».
الملكية والثورة
> وهذه النقطة تقودنا الي الجوهر الحقيقي للفيلم حيث اختار صُناعه تبني رؤية «رومانسية» للملكية مقابل رؤية «سوداوية» للثورة والجمهورية، وهو ما يتجلي بوضوح في المقارنة بين تصوير الملك فاروق والحكم الملكي وتصوير جمال عبد الناصر و قادة ثورة يوليو.
الملك فاروق: يمنح نيشان «الكمال» لأم كلثوم ليسرق مع قيام ثورة يوليو و يتم تصوير حقبة الملك فاروق وكأنها عصر «الجمال المطلق والكمال الملهم»، ويظهر الملك في صورة الحاكم الذي يقدر الفن والجمال والرقي، و إظهار الجانب «الأرستقراطي» للملك كداعم وحيد لأم كلثوم، متجاهلاً أن علاقتها شابتها توترات «خاصة مع الملكة الأم نازلي التي عارضت زواج أم كلثوم من شريف صبري باشا، خال الملك».. يعني تقديم و تصوير الملك كشخصية «عظيمة» بلا شائبة وهو نوع من الحنين لزمن الملكية Nostalgia الذي يطمس الحقائق التاريخية حول أسباب قيام الثورة أصلاً.
> وفي المقابل يأتي تهميش «تكريم الثورة» وجمال عبدالناصر مقابل تضخيم «عطايا الملك» من الأوسمة الملكية «مثل وسام الكمال الذي حصلت عليه أم كلثوم عام 1944» كدليل علي رقي العهد السابق، لكنه في المقابل يغفل أو يمر مروراً عابراً علي التقدير غير المسبوق الذي نالته من «دولة يوليو» مثل التجاهل المتعمد من الفيلم بأن ثورة يوليو هي التي منحت أم كلثوم «جواز سفر دبلوماسي»، وهي التي جعلت منها «أيقونة قومية» بقرار سياسي من عبدالناصر.. ومنحتها جائزة الدولة التقديرية عام 1968 وهو تكريم رسمي لم يحصل عليه فنان بهذا الثقل من قبل..
«الصدام» أو «السقوط»
> لكن الفيلم اختار أن يركز علي لحظات «الصدام» أو «السقوط» «كما في مشهد الأولمبيا» بدلاً من توثيق لحظات التتويج الجمهوري الذي جعل منها «كوكب الشرق» فعلياً في كامل التراب العربي.
> ويظهر الضباط الأحرار في الفيلم أحياناً بصورة تفتقر إلي الكاريزما أو الثقافة، في مقابل صورة «الباشوات» والملك الذين يفيضون رقيًا متجاهلاً موقف عبدالناصر وبعض الضباط الأحرار مثل ثروت عكاشة من الفن والثقافة.. هذا التباين البصري والسلوكي يهدف إلي إقناع المشاهد بأن «الجمهورية» كانت بداية تدهور الذوق العام، وهو ادعاء يتناقض مع حقيقة أن أزهي عصور أم كلثوم الفنية «بالتعاون مع بليغ حمدي وعبدالوهاب والسنباطي ومكاوي إلخ» كانت في الخمسينيات والستينيات تحت رعاية نظام يوليو.
> لقد تحول فيلم «الست» من سيرة ذاتية لمطربة تاريخية إلي «مانيفستو سياسي» يعيد قراءة تاريخ مصر الحديث من وجهة نظر منحازة. من خلال تضخيم صورة الملك فاروق وتصويره كرمز للكمال المفقود، مقابل تقزيم دور ثورة يوليو وتصوير لحظات سقوط أم كلثوم كرمز لسقوط الدولة، يعني سقط الفيلم في فخ «التسييس» الذي أفسد القيمة الفنية للعمل.
> أم كلثوم «الست» لم تكن ملكية ولا جمهورية؛ لقد كانت «مصرية» فوق كل اعتبار، وكان صوتها هو القاسم المشترك الذي لم يستطع الملك ولا ناصر الاستغناء عنه. وتصويرها كأداة للمفاضلة بين العهود هو ظلم كبير لتاريخ «فاطمة إبراهيم البلتاجي».
رموز الفن
> تجاهل الفيلم علاقة ام كلثوم برموز الفن أمثال رياض السنباطي وزكريا احمد وبليغ حمدي ومحمد عبد الوهاب والموجي.. إلخ وكأنها نبت شيطاني في اشارة لتجاهل بل إسقاط رموز الحركة الفنية وعندما قدم القصبجي قدمه مجرد عازف عود في تخت بل ومحاولا قتل الملحن محمود الشريف.
> ونأتي للملف الصحي.. طبيا حول الفيلم أزمة الغدة الدرقية و المعاناة الإنسانية إلي «تشويه بصري»مثل جحوظ في العينين وتأثيره علي حالتها النفسية والبدنية ، و المبالغة في «قبح» المرض ب»التدهور الشكلي» الصادم، مع التركيز علي لقطات قريبة Close-ups تبرز الجحوظ بشكل قد يراه البعض «منفراً» درامياً.
> وهذا عكس الواقع التاريخي وحرص ام كلثوم علي «هيبتها» وصورتها أمام الجمهور بإرتداء النظارة السوداء الشهيرة ، لا لإخفاء المرض فحسب، بل للحفاظ علي تلك الهالة الوقورة. والفيلم، في محاولته لتقديم «واقعية فجة»، كشف ما حرصت كوكب الشرق علي ستره طوال حياتها، وهو يعد «انتهاكاً لخصوصية الرمز» بدلاً من كونه تعاطفاً مع مرضها…
> وحتي الرفض الطبي لإجراء العملية الجراحية في الولايات المتحدة صوره الفيلم وكأنه نابع من خوف طفولي أو عناد شخصي، أو حتي هوس بالشكل الخارجي فقط.
> ولم يؤكد أن رفض أم كلثوم للجراحة كان نابعاً من تقارير طبية حذرتها من أن أي خطأ جراحي بالقرب من الأوتار الصوتية قد ينهي مسيرتها الفنية للأبد..لذلك اختارت «الست» أن تعيش بآلام الجحوظ وتغير الملامح في سبيل الحفاظ علي «الحنجرة» التي كانت ملكاً للشعب العربي بأكمله. الفيلم لم ينصف هذا التضحية، بل ركز علي «الألم الجمالي» أكثر من «القرار المصيري».
> يعني النظارة السوداء تحولت بفضل ذكاء أم كلثوم إلي «أيقونة» للموضة والغموض الفني…لكن أظهره الفيلم كأنها «قناع» تضطر لارتدائه لتختبئ من الناس، وصور لحظات نزعها للنظارة في الكواليس بشكل يوحي بالانكسار التام.. لقد طوعت أم كلثوم مرضها لخدمة صورتها الكاريزمية، وهو ما فشل الفيلم في نقله، حيث أظهرها كـ «ضحية» للمرض أكثر من كونها «منتصرة» عليه بفنها..
> لم يدرك صناع الفيلم مع افتراض حسن النية أن محاولة «أنسنة» العمالقة لا تعني بالضرورة التركيز علي مواطن ضعفهم أو تشويه علاقاتهم بمن صنعوهم (سواء الأهل أو الوطن).
رحلت أم كلثوم وبقيت صورتها في الوجدان كنموذج للشموخ، وجاء الفيلم ليقدم «فاطمة» التي تتألم وتضعف وتختلف مع عائلتها،
> أخيرا.. نقد الفيلم لا يقلل من القيمة الفنية للأداء أو الإخراج، بل يسلط الضوء علي «الأمانة التاريخية» تجاه شخصية لم تكن مجرد مطربة، بل كانت جزءاً من تشكيل الوجدان والهوية المصرية.
> ويبقي السؤال: هل خدم هذا التناول سيرة كوكب الشرق، أم أنه حاول هدم «الهرم الرابع» .









