التاريخ لا يتحرك بالعشوائية، ولا يُدار بالصدف، ولا تُصنع محطاته الكبرى بفعل انفعالات مفاجئة. ما يبدو لنا فوضى هو ـ فى الغالب ـ نظام لا نعرف مفاتيحه، وما نراه ارتجالاً هو تخطيط طويل النفس. ومن يصدق أن العالم يُعاد تشكيله بلا عقل يدير المشهد، إما ساذج سياسياً أو متواطئ معرفياً.
>>>
منذ الثانى من أغسطس 1990، يوم اجتاحت العراق الكويت، بدأ الانهيار العربى الكبير. لم تكن تلك الحرب خطأً تكتيكياً، بل لحظة تفكيك متعمد للنظام الإقليمى العربي. تحطمت فكرة الردع المشترك، وسُحبت الشرعية من القوة العربية، ودخل العراق ـ الدولة والجيش والهوية ـ فى مسار تدمير ممنهج لم يتوقف حتى اليوم.
>>>
ثم جاءت 11 سبتمبر 2001، الحدث الذى أعاد تعريف العدو، وأعاد صياغة العالم بالقوة. لم يكن سقوط برجى التجارة مجرد ضربة إرهابية، بل الذريعة المثالية لإطلاق أكبر مشروع عسكرى أمريكى منذ الحرب العالمية الثانية. تحت شعارات ـ محور الشر ـ الحرب على الإرهاب، جرى تفويض مفتوح لتدمير دول، وإعادة احتلال أخري، وتكريس الهيمنة الأمريكية بلا مواربة.
>>>
وفى 9 أبريل 2003، سقطت بغداد. بلا مقاومة تُذكر، لا معركة حقيقية، لا دولة تحمى نفسها. تبخر الجيش العراقي، ثم جرى اغتياله سياسياً بقرار إدارى من بول بريمر. لم يكن إسقاط النظام كافياً؛ كان المطلوب إسقاط فكرة الدولة الوطنية ذاتها، وفتح العراق على مصراعيه للفوضى الطائفية والتفتيت الاجتماعي، كدرس نموذجى يُعمم لاحقاً.
>>>
بعدها بثمانى سنوات، وصلت النار إلى قلب المنطقة. 25 يناير 2011 لم يكن انفجاراً عفوياً كما رُوّج، بل موجة سياسية جرى توظيفها بعناية. الربيع العربى لم يُنتج ديمقراطيات، بل دولاً منهكة، جيوشاً منكسرة، وحدوداً رخوة. من تونس إلى ليبيا، ومن سوريا إلى اليمن، كانت النتيجة واحدة: دولاً ضعيفة، ومجتمعات منقسمة، وساحات مفتوحة للتدخل الخارجي.
>>>
ثم جاء 7 أكتوبر 2023، الحدث الذى كسر كل الخطوط الحمراء. هجوم حماس، ثم الرد الإسرائيلى الذى تجاوز مفهوم الحرب إلى الإبادة المفتوحة. خمسة عشر شهراً من القصف والدمار، واتساع الصراع إلى لبنان واليمن وسوريا وإيران. لم تكن غزة وحدها المستهدفة، بل فكرة الاستقرار الهش الذى تبقى فى الإقليم. وما زال المشهد مفتوحاً على سيناريوهات أشد قسوة.
>>>
أما 20 يناير 2025، مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فلم يكن مجرد تداول سلطة. كان إعلاناً صريحاً عن ثورة يمينية عالمية، تمرد على النظام الليبرالى الغربي، وانقلاباً على القواعد التى حكمت العالم منذ نهاية الحرب الباردة. ترامب لا يعود وحده، بل يعود ومعه مشروع صدامى يعيد تعريف الحلفاء والأعداء، ويُطلق يد القوة دون أقنعة أخلاقية.
>>>
من يظن أن هذه الأحداث منفصلة، لم يفهم السياسة بعد. هذه ليست محطات معزولة، بل حلقات فى سلسلة واحدة، يمكن وصفها بلا مواربة بـ مداميك المؤامرة الكبري. أربع محطات دارت على أرض الإقليم العربى مباشرة، وواحدة فجّرت العالم من خارجه، وأخيرة تعيد الآن كتابة قواعد اللعبة كلها.
>>>
هنا يبرز السؤال الجوهرى: من يكون مستر ستيفن؟
ليس شخصاً، ولا اسماً فى أرشيف الاستخبارات، بل عقل مركزى، أو شبكة عقول، تُدير المشهد من خارج الكادر. من يحدد لحظة الانفجار، ويُدير الفوضي، ثم يخرج منها بمكاسب استراتيجية. من لا يظهر فى الصور، ولا يُحاسب فى البرلمانات، لكنه يقرر مصير دول كاملة.
>>>
التاريخ الرسمى لن يذكره. سيكتفى بسرد الوقائع، وتبادل الاتهامات، وتقديم الضحايا. أما الخيط الذى يربط احتلال الكويت بسقوط بغداد، وسقوط بغداد بالربيع العربي، والربيع العربى بغزة، وغزة بعودة اليمين المتطرف إلى حكم العالم، فسيظل مسكوتاً عنه.
>>>
ولهذا، فإن إعادة قراءة هذه الأحداث ليست ترفاً فكرياً، بل ضرورة سياسية. لا لفهم الماضى فقط، بل لتوقع القادم. فالعاصفة لم تنتهِ، وما نعيشه اليوم ليس الذروة، بل مرحلة انتقالية فى مشروع أكبر.
>>>
والسؤال الذى يجب أن يُطرح بجرأة:
هل نحن مجرد ساحات اختبار فى لعبة كبرى؟
أم سنمتلك ـ يوماً ما ـ القدرة على كسر السيناريو، وإرباك مستر ستيفن، والخروج من دور الضحية الدائمة؟








