تلقيت دعوة كريمة من أحد الأصدقاء لزيارة بعض قرى ومراكز محافظة كفر الشيخ، وقضاء يومين بين الطبيعة الساحرة والهواء المفتوح، بعيداً عن ضجيج المدن و«تنظيرات» السوشيال ميديا. كانت الدعوة بريئة، والنوايا حسنة، والرحلة بدت واعدة بالهدوء.. حتى قررت السماء أن تمطر بغزارة.
هنا، وبلا مقدمات، تحولت الطرق الداخلية إلى اختبارات صبر حقيقية، لا ينجح فيها إلا من يمتلك جرافة بدل الحذاء. طين كثيف، مساحات موحلة تبتلع الإطارات والأحلام معاً، وشوارع فرعية تُذكّر الزائر أن الرصف الداخلى فى بعض القرى ليس مجرد بند فى الميزانية، بل هو فكرة مؤجلة.
وفى لحظة صمت، قطعها صديقى بجملة بسيطة، لكنها أوجعت المنطق لدرجة تفوق ألم الغرق فى الوحل: «هو «السن» اللى شركات البترول بتسيبه بعد الحفر… ماينفعش يتاخد ويتوزع على المجالس القروية؟»
سؤال عفوي، جاء من صميم المعاناة، لكنه يفتح باب مفارقة كوميدية، يظل الفلاح يخوض معركة يومية مع الوحل، رغم أن الحل مكدس أمام عينيه، بلا تكلفة، وبلا تعقيد. نحن نتحدث عن «السن».. ذلك الناتج الحجرى المصاحب لعمليات التنقيب، الذى لا يدخل فى حسابات الأرباح، ولا يظهر فى البيانات الختامية، لكنه قادر ــ لو أُحسن استخدامه ــ على إنقاذ قرى كاملة من الغرق الموسمى فى الطين.
وهنا يظهر بطل قصتنا الحقيقي: المقاول الذكي. هذا الرجل لا يسرق، لا يخالف القوانين، لكنه يفهم جيداً كيف يُستثمر الفراغ الإداري. يشترى السن بثمن زهيد، ثمن قد يكون أقل من ثمن قهوته الصباحية، ثم يعيد بيعه للفلاح، الذى يجد نفسه مضطراً للدفع من قوته اليومى ليمهد طريقاً يمشى عليه أطفاله.
بهذا المنطق العبقري: الدولة تنتج، الشركة تحفر، المقاول يستثمر، والفلاح يدفع… ثمن الإهمال الإداري. ليس لأن الحل غير موجود، بل لأن أحداً فى الغرف المكيفة لم يفكر فى إصدار قرار ينص على أن «الحصى المصاحب لاستخراج الذهب الأسود، هو حق خالص للقرية».
فى محافظة مترامية الأطراف كـ «كفر الشيخ» حيث القرى ممتدة والكثافة السكانية عالية، تصبح الطرق الداخلية قضية كرامة يومية، لا بنداً هامشياً فى خطة تنمية.
إن قطاع البترول، بقيادة المهندس كريم بدوى، أمامه فرصة حقيقية ليُسجل فى التاريخ لا كقطاع مُنتِج فحسب، بل كقطاع مُلهِم. عبر قرار وزارى واحد، يُلزم الشركات بإدراج بند صريح فى التعاقد ينص على أن السن الناتج عن عمليات التنقيب هو منحة مجانية وإلزامية تُسلَّم مباشرة للمجالس القروية المحيطة، وتُستخدم فى الرصف الداخلي، تحت إشراف المحافظ النشط اللواء خالد عبد الحميد.. ويمكن لمنظمات المجتمع المدنى المخلصة أن تشارك فى التنفيذ لضمان التوزيع العادل.
نحن لا نطالب بتبرعات، بل نطالب بتصحيح مسار يمنع تحويل المخلفات القومية إلى تجارة، ويعيدها إلى وظيفتها الأصلية: خدمة الناس. عندها فقط، سيتغير المشهد.
بدلاً من أن نقول إننا «دولة تُنتج البترول… وتُجبر الفلاح على شراء الحصي»، سنقول: «دولة حفرت… وسابت البلد ماشية على أرض ناشفة وبكرامة».
وحتى يصدر هذا القرار الذى لا يحتاج سوى إلى قلم وإرادة، من المسئول فى هذا الملفً، وسيظل المقاول يبتسم، وسيظل السؤال معلقاً فى طرق القرى بعد كل مطر: لماذا نملك الحل… وننتظر القرار؟









