كشف إلغاء الانتخابات فى عدد واسع من الدوائر وإعادتها، حجم الفجوة فى عدد من صوّت لكل مرشح، فى الجولتين، خاصة لدى المرشحين الحزبيين الذين ينتمون إلى أحزاب بعينها.
هذا التفاوت لا يمكن تجاهله ولا دفنه تحت شعارات مطمئنة، نحن أمام لحظة تستدعى محاسبة حقيقية، لا تبريرات ولاالتواءات.
ما حدث ليس تفصيلاً انتخابيًا، بل مؤشر خطير على خلل عميق تجاهلناه طويلًا.
ولعلنا أمام فرصة – وربما إنذار – لإعادة كتابة المشهد السياسى فى مصر. وهى مسئولية ثقيلة، لا نحتاج إلى شعارات تزدهر أيام الحملات ثم تختفي، بل نحتاج إلى بناء حزبى حقيقي، أحزاب تفهم المجتمع وتعيش معه، لا أحزاب تفتح أبوابها مرة كل أربع أو خمس سنوات وكأن السياسة موسم سياحي، ومناخ عام يتسع للجميع.
ورغم أن أكثر من مائة حزب مسجّل رسميًا، فإن أغلبها لايتجاوز كونه لافتة باهتة بلا حضور ولا تأثير. المواطن لايعرفها، ولا يسمع صوتها، ولا يجد أثرًا لها فى حياته اليومية. انتخابات 2020 كانت جرس إنذار واضحًا،او تحالف جديد حصد أكثر من نصف مقاعد البرلمان، بينما ذهبت 117 مقعدًا للمستقلين، وبقيت عشرات الأحزاب متوارية تحت أنقاض تمثيل شكلى لا يغير شيئًا.
الفجوة بين «عدد» الأحزاب و«وجودها الحقيقي» ليست ذنب المواطن، إنها نتيجة نظام انتخابى عاجز، وممارسات حزبية مترهلة، وبيئة تُفرغ السياسة من مضمونها. المواطن — ببساطة — لم يجد من يمثله، فلجأ إلى المستقلين، رغم أنهم بلا تنظيم ولا ظهير سياسي، فقط لأنهم بدوا أقل زيفًا.
واليوم، ومع إلغاء نتائج دوائر عديدة فى انتخابات 2025 بسبب إخلالات تستحق التوقف، يحصل الناخب المصرى على فرصة ثانية ليقول، كفى تمثيلًا صوريًا، كفى انتخابات بالاسم لا بالمعنى. لكن الفرصة وحدها لا تكفي؛ يجب أن نتحرك.
ما نحتاجه هو أحزاب حقيقية: برامج واضحة، قواعد تنظيمية، خطاب مرتبط بالناس لا بالصور الرسمية. أحزاب تتعامل مع الأسعار، التعليم، الصحة، العدالة الاجتماعية بوصفها أولويات لا شعارات. من دون هذا، سيبقى البرلمان مخزن مقاعد، وستظل السياسة لعبة نخبوية لا علاقة لها بالناس.
أما المستقلون – مهما زاد عددهم – فلن يصنعوا كتلة مؤثرة من دون بنية حزبية تحميهم من ذوبان النفوذ والمال، وهما اللاعبان الأكثر حضورًا فى غياب الأحزاب الحقيقية.
إن لم نتحرك الآن — أحزابًا، شبابًا، مجتمعًا مدنيًا، سنستيقظ على واقع أشد قسوة، واقع تُختطف فيه السياسة، ويتآكل البرلمان، ويضيع صوت المواطن وسط ضجيج المصالح. أما إذا قررنا أن نقلب الطاولة ونبدأ من جديد، ونبنى ونطالب ونشارك بجدية، فسنضع لبنة أولى لحياة حزبية حقيقية لا تُختزل فى صور انتخابية عابرة.
السياسة ليست موسمًا، وصوت المصرى ليس لقطة فى صندوق. إذا لم نستثمر هذه اللحظة، فلن يبقى شيء نبنيه لاحقًا.









