لعل أهم فارق بين العلماء والجهلاء هو مدى فهم هؤلاء وأولئك لقضايا الحل والحرمة، والضيق والسعة، فالعالم يدرك أن الأصل فى الأشياء الحل والإباحة، وأن التحريم والمنع هو استثناء من الأصل، يقول الحق سبحانه: «قل لَّا أَجِدُ فِى مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» «الأنعام: 145»، ويقول نبينا الكريم «صلى الله عليه وسلم»: «إنَّ اللَّه تَعَالَى فَرَضَ فَرائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وحدَّ حُدُودًا فَلا تَعْتَدُوهَا، وحَرَّم أشْياءَ فَلا تَنْتَهِكُوها، وَسكَتَ عَنْ أشْياءَ رَحْمةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيانٍ فَلا تَبْحثُوا عَنْهَا» «رواه الدارقطنى»، ويقول «صلى الله عليه وسلم»: «ما أَحَلَّ اللهُ فى كتابِه فهوَ حَلالٌ، و ما حَرَّمَ فهوَ حرامٌ، و ما سَكَتَ عنهُ فهوَ عَفْوٌ ، فَاقْبَلوا مِنَ اللهِ عَافِيَتَهُ وما كان رَبُّكَ نَسِيًّا» «رواه الطبرانى».
فالجهلاء يجعلون الأصل فى كل شىء التحريم والمنع، ويطلقون مصطلحات التحريم والتفسيق والتبديع والتكفير دون وعي، غير مدركين ما يترتب على ذلك من آثار، ولا مفرقين بين التحريم والكراهية ولا حتى ما هو خلاف الأولي، فصعبوا على الناس حياتهم، ونفروهم من دين الله «عز وجل» وهو ما حذر منه نبينا «صلى الله عليه وسلم»، حيث يقول نبينا «صلى الله عليه وسلم»: «إنَّمَا بُعِثْتُم مُيَسِّرينَ ولَم تُبعَثُوا مُعَسِّرِينَ» «مسند أحمد»، وقوله لسيدنا معاذ بن جبل «رضى الله عنه» عندما شكا إليه «صلى الله عليه وسلم» بعض الناس أنه يطيل بهم الصلاة: «يا مُعاذُ، أفتَّانٌ أنت؟» «سنن أبى داود».
أما الفريق الآخر وهم العلماء فقد أدركوا بما لا يدع أى مجال للشك أو الارتياب أو حتى الجدل أن الأديان إنما جاءت لسعادة الناس لا لشقائهم، حيث يقول الحق سبحانه: «طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى» «طه: 1، 2»، ويقول: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» «الحج: 78»، ويقول سبحانه: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» «البقرة: 185».
وفقهوا أن الفقه رخصة من ثقة، وأن الفقه هو التيسير بدليل، وأن النبى «صلى الله عليه وسلم» ما خُيِّر رسول الله «صلى الله عليه وسلم» بين أمرين إلَّا أخذ أيسرَهما، ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد النَّاس منه، وهو «صلى الله عليه وسلم» القائل: «يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا، وبَشِّرُوا ولا تُنَفِّرُوا» «صحيح البخارى»، فأخذوا الناس إلى طريق الشريعة السمحاء النقية التى لا تنال منها المطامع ولا الأهواء ولا التوظيف الأيدولوجي، مع تأكيدنا أن هذا التيسير الذى نريده شىء وأن التسيب والانفلات شىء آخر، فالتيسير الذى نريده هو التيسير المنضبط بضوابط الشرع، لا ذلكم التسيب المبنى على الهوى.
فتحت مسمى الالتزام والأحوط والاحتياط فتحت أبواب التشدد التى ساقت وجرفت الكثيرين فى طريق التطرف، حتى ظن الجاهلون أن التحوط فى التدين يقتضى الأخذ بالأشد، وأن من يتشدد أكثر هو الأكثر تدينًا وخوفًا من الله «عز وجل»، وتحت مسمى التيسير فتحت بعض أبواب الخروج عن الجادة، وديننا يريدها وسطية سوية، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فلا إفراط ولا تفريط، يقول الإمام الأوزاعى رحمه الله: ما أمر الله «عز وجل» فى الإسلام بأمر إلا حاول الشيطان أن يأتيك من إحدى جهتين لا يبالى أيهما أصاب: الإفراط أو التفريط، ويقولون: لكل شىء طرفان ووسط فإن أنت أمسكت بالوسط استقام لك الطرفان، وإن أنت أمسكت بأحد الطرفين مال الآخر.
اللهم ارزقنا حسن الفهم.








