مازال الحديث مستمرا حول دعم الإستراتيحية الوطنية للسياحة. وأواصل الكلام عن السياحة الدينية، باعتبارها جزءا مهما فى جلب السائحين إلى مصر ومنها رحلة العائلة المقدسة واستثمارها فى السياحة الدينية، حيث
تُمثّل مصر، على مرّ العصور، «أرض الأمن والأمان» ومهد الحضارات والأديان. ومن بين القصص التى ترويها جدران الكنائس والأديرة العتيقة فى ربوعها، تبرز قصة «رحلة العائلة المقدسة» كمحور تاريخى وكنز روحى لا يُقدّر بثمن. فمنذ نحو ألفى عام، وُطئت أرض الكنانة بأقدام السيد المسيح له المجد، وأمه مريم العذراء، والقديس يوسف النجار، فارّين من بطش الملك هيرودس فى بيت لحم. هذه الرحلة الشاقة، التى دامت قرابة ثلاث سنوات، لم تكن مجرد هروب، بل كانت مصدر بركة استقرت فى وجدان الشعب المصرى، وتحولت اليوم إلى مسار دينى عالمى يمثل فرصة ذهبية لدعم وتنشيط السياحة الدينية فى البلاد.
بدأت رحلة العائلة المقدسة فى سيناء، ثم اتجهت إلى الدلتا والصعيد، قاطعة مسافة تقدر بـ 3500 كيلومتر ذهاباً وإياباً. شمل المسار أكثر من 25 موقعاً أثرياً ودينياً، حيث استقرت العائلة فى مغارات وكهوف، وشربت من آبار، وتركت وراءها علامات لا تزال قائمة حتى يومنا هذا. ففى «تل بسطا» الشرقية حاليا، سقطت الأوثان عند دخولهم، وفى «مسطرد»، غسلت السيدة العذراء ملابس طفلها، وفى «وادى النطرون» نشأت فيما بعد الرهبنة القبطية. وتعتبر القاهرة القديمة، بمواقعها مثل كنيسة «أبى سرجة» التى تحوى المغارة التى احتمت بها العائلة، وكنيسة العذراء بالمعادى التى عبرت منها النيل، نقاطاً محورية فى المسار. أما ذروة الاستقرار فكانت فى «جبل قسقام» بأسيوط، حيث يقع دير المحرق، والذى يُعتقد أنه المكان الذى عاشت فيه العائلة المقدسة أطول فترة، وتحولت مغارته إلى أول كنيسة فى مصر.
إن القيمة الروحية لهذا المسار لا تقتصر على الأقباط فحسب، بل تمتد لتشمل ملايين المسيحيين حول العالم الذين يعتبرون مصر «أرضاً مباركة» بناءً على النبوءة الواردة فى سفر إشعياء: «مُبَارَكٌ شَعْبِى مِصْرُ». وقد أثبتت هذه الرحلة مبدأ التعايش والتسامح الذى تتميز به مصر، التى احتضنت الفارين ووفرت لهم الأمان فى وقت عصيب وأدركت الحكومة المصرية الأهمية الاستراتيجية لهذا التراث، وأطلقت «المشروع القومى لإحياء مسار العائلة المقدسة»، بهدف تحويله إلى وجهة سياحية عالمية مدرجة ضمن برامج الحج المسيحى. ويمثل هذا المشروع محوراً تنموياً وعمرانياً ضخماً يتجاوز مجرد الترميم، ليشمل تطوير البنية التحتية والخدمات على طول المسار الممتد عبر عدة محافظات.
ويتم العمل على ترميم الكنائس والأديرة والمواقع الأثرية على المسار لتكون فى أفضل صورة لاستقبال الزوار.
وتطوير المناطق المحيطة بالمزارات، بما فى ذلك الطرق واللافتات الإرشادية وخدمات الإضاءة والتنسيق الحضارى.
ويعد اعتماد الفاتيكان لمسار العائلة المقدسة كأحد مسارات الحج المسيحى عام 2017 نقطة تحول كبرى، حيث وضع مصر رسمياً على الخريطة العالمية للسياحة الدينية. ويجب استهداف الأسواق السياحية الكبرى فى أوروبا والأمريكتين، التى تضم تجمعات مسيحية ضخمة، من خلال حملات تسويقية دولية مكثفة. كما أن ربط المسار بمقومات سياحية أخرى فى مصر «كالسياحة الثقافية والترفيهية» لتقديم «منتج سياحى متكامل». فالسائح الذى يزور دير المحرق يمكنه أيضاً زيارة المعابد الفرعونية القريبة.
وتشجيع إقامة الفنادق والمنتجعات ذات الطابع الروحى والقبطى، وتدريب الكوادر البشرية «المرشدين والسائقين» على التاريخ الدقيق للرحلة. ولابد من تنمية المجتمعات المحيطة بالمسار عبر تشجيع الحرف اليدوية والمنتجات المحلية التى يمكن أن تكون تذكارات للرحلة. وهذا لا يدعم الاقتصاد المحلى فحسب، بل يضيف طابعاً أصيلاً ومميزاً للتجربة السياحية.
ويمكن لإحياء مسار العائلة المقدسة أن يحقق عوائد اقتصادية ضخمة، من خلال جذب ملايين السياح المسيحيين سنوياً، بما يساهم فى زيادة التدفق السياحى وتنويع مصادر الدخل القومى. ولا يقتصر الأثر على الجانب الاقتصادى، فالمشروع يبعث برسالة قوية للعالم تؤكد على مكانة مصر «أرض الأديان»، وكرمز للسلام والتعايش والتسامح بين الحضارات والثقافات، مما يعزز صورة مصر الإيجابية على الصعيد الدولى. إن رحلة العائلة المقدسة إلى مصر هى قصة إنسانية وإيمانية عميقة، تحولت بفضل الجهود الوطنية إلى مشروع قومى يحمل وعداً بمستقبل مشرق للسياحة الدينية المصرية. فالكنوز الروحية التى تملكها مصر لا تقل قيمة ولا بريقاً عن كنوزها الأثرية الفرعونية، ويتطلب الاستغلال الأمثل لهذا المسار استمرار العمل الجاد والتعاون بين القطاع العام والخاص لضمان استدامته وتألقه كوجهة سياحية عالمية على مدار العام.
وللحديث بقية









