تذكرت واقعة تضحكنى كثيرا حين تجول بخاطري. فبينما كنت أقود سيارتى يوما على طريق الإسكندرية الصحراوي، استوقفنى أحد البسطاء طالبا توصيلة إلى الخطاطبة قال لى ان اسمه عبدالهادي. ركب إلى جوارى وتسامرنا، وكان يمتلك قطعة أرض صغيرة يحاول استصلاحها، لكن الأحوال لم تكن مشجعة. وكما قال: إن استصلاح الأرض الصفراء يحتاج إلى مال قارون وصبر أيوب وعمر نوح. وفجأة وجدته يصرخ: «اهه الخباص اهه!» بعد أن رأى رجل مرور يؤدى عمله بأمانة تحترم يختبئ خلف شجيرة حاملا كاميرا الرادار. ضحكت فعلا من هذا الوصف غير الصحيح أو اللائق، والذى لم يخطر ببالى من قبل.
نحن نستخدم كلمة «الخباص» فى غير معناها الصحيح تماما كما فعل عبدالهادي. إذ يظن الكثيرون أنها تعنى من ينقل أخبار الناس ويتجسس عليهم، بينما هذا هو «البصاص» فى اللغة العربية. أما «الخباص» فى المعاجم فهو من يخلط الحق بالباطل وينشر الأخبار الكاذبة. وبين البصاص والخباص تتعدد النماذج التى نراها اليوم على الشاشات ومنصات التواصل؛ فحب الإنسان لمعرفة الأسرار والخفايا يعطى هذه البرامج مشاهدات كبيرة.
لكن الأخطر هو ما يتعلق بأسرار الدولة وكواليس السياسة. فهناك من كانوا قريبين من موقع القرار والمطبخ السياسى للبلد، واكتسبوا معلومات دقيقة وعاصروا أحداثا مهمة ومواقف متعدده فى أوقات مرح أو اوقات حروب، ويمر الزمن وتتغير القيادات ثم نرى هؤلاء وقد وجدوا فى سرد هذه القصص والحكايات فرصة للانتشار والكسب المادي، فباعوا ما لديهم من أسرار لمن يدفع من قنوات الإعلام ووسائل التواصل والشاشات.. يقولون كل شيء وكل ما يخطر ببالهم وكله بثمنه.. رغم علمهم التام أن أجهزة الإستخبارات فى كل مكان تستقى معلوماتها من كل صغيرة أو كبيرة يجدون فيها أول خيط للإستدلال على التوجهات وآلية إصدار القرار للقيادات السياسية. وأنا أرى أن هذا النوع من السلوك خيانة للأمانة وخيانة للوطن.
أما الخباصون ممن يمزجون الحقيقة بالخيال، فهم أيضا كثر. يرتدون عباءة الخبراء، ويتحدثون بثقة مفرطة، يذكرون معلومات لا أساس لها من الصحة.. أرقاما وتواريخ غير منطقية، ويكررون معلومات بلا سند. سمعت أحدهم يجاوب عن سؤل عن تاريخ وقوع حدث ما فى الزمن البعيد فأجاب فورا وبكل ثقة وثبات: «عام 2619 قبل الميلاد»!.. يا جامد.. ماشاء الله وكأنه كان يعيش بينهم.. طب لماذا ليست 2620 أو 2700 مثلاً؟! والأغرب أن الأمر يمر مرور الكرام على من يحاوره. وسمعت زميلاً آخر.. يتحدث عن الشوفان.. والذى يعتبر بروتين نباتى ومن أجود وأصح ما يمكن أن تناوله الإنسان فى وجبة الإفطار ولكن زميلنا الخبير والعالم بكل الأمور.. يحذر البشر من تناوله ويؤكد أنه لايستخدم الا لغذاء الخيل والبغال والحمير.. الله يهديك.. وقريبا سمعنا من يقول انه تم اكتشاف الزئبق الأحمر فى أحد المعابد المكتشفة حديثا.. رغم أن كل المصادر العلمية أكدت أن الزئبق الأحمر هو خرافة لا تمت إلى الحقيقة بأى صلة.
الخطير فى الأمر.. أن هذه النماذج تتلقفها القنوات، فتضاعف انتشارها. وهذا يتطلب منا تعاملا إعلاميا أكثر حرفية ووعيا.
الكثير من الشركات والمؤسسات الكبرى تشترط على موظفيها وخبرائها عدم الإفصاح عن أى معلومات تخص العمل، سواء خلال فترة الوظيفة أو بعدها، وتلاحق قضائيا من يخالف ذلك حتى لو بسبب بسيط. نحن بحاجة ماسة إلى تطبيق تشريعات مشابهة، وبحزم وصرامة، تجاه من يعبث بالأسرار أو يختلقها، سواء كان بصاصا أو خباصا، ومن الضرورى أيضا أن تتيح القنوات الإعلامية ألية إستقبال بلاغات من المشاهدين أو المستمعين حول ما قد يتضمن برامجهم من معلومات قد تكون غير دقيقة او غير حقيقية فالإعلام له أثر كبير على تغيير التوجهات والسلوكيات والممارسات لدى الجماهير ولابد من التأكد من أن ما يصله هو الواقع الحقيقى والصحيح.. ومن مصادر موثوقة.. وليست من الخباصين أو البصاصين.









