وكأن الشوق عبادة لم أدرك عنوانها وان اجتهدت واخلصت فى ادائها حتى اعتدت مسالك دروبها ولهاً وعشقاً، نعم اشتاق وعندى لوعة واشتياق، منذ أن غادر جسدى المدينة فى رحلتى السابقة – منذ سنوات- ومازلت الروح عالقة بتراب مقامه الجليل صلى الله عليه وسلم، وإلى أن شاء الله لى كرماً بعودة تقر العين وتتكحل برؤية باب حضرة النبي، وما ان استضافت الروح جسدها الغائب حتى دبت الأنفاس فرحاً ودقت النبضات طرباً، قال لى العارفون ممن سبقوني: ستنسى كل شيء.. الأهل والأحباب والأصدقاء، ونصحونى بتدوين الأدعية وحسن صياغتها، فتلك زيارة ما قبل الحج لها من الجلال ما ترتعد له أوصال المرء منا، وتتملكك حالة أو حزمة من الحالات المتداخلة والمتشابكة وربما المتناقضة فتبتسم خطوط الوجه وتنسال دموع الوجد حتى تعتاد مساراتها على كلثومين شديدا الاحمرار تعتليهما مقلتان دامعتان على الدوام، وقلب يرجف خوفا من الرفض ويرقص من نشوة القبول، ونفس هائجة فى بحر لجى من أمواج مضطربة ما بين الرجاء واليأس، لا تعلم شيئا مما كنت تعلمه من قبل حتى عن ذاتك، حاذر (!) … انها لحظات مخاض جديد، تعيشها أنت، لتولد ثانية من جديد، من قال أنفا : رب ارجعون لعلى اعمل صالحا فيما تركت، … وكان الجواب السرمدى (كلا) ولكنك الان تولد من جديد، وها قد عُدت من جديد، فماذا ستفعل؟ وهل سيكون فعلك صالحاً فيما هو آت؟!
نعم نسيت كل الاشياء المتزاحمة والمتحجرة أمام بوابة ذاكرتي، وتذكرت أمرين، وكان الأول؛ مع حالة الخوف والمهابة امام قائد دان له العالم زمانا ومكانا على تعاقبهما إلى الآن ليس بالسلاح والترهيب والتخويف والتكفير، انما بالكلمة، الكلمة التى تفرق ما بين نبى وبغي، تذكرت قصيدة عبدالرحمن الشرقاوى فى رائعته (الحسين ثائرا) وعلمت ان الكلمة بحق؛ شرف الرجل … وصدق الله اذ يقول «ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك» نعم اجتمعوا على دربه، واحبه واتبعه كل هؤلاء الألسن المختلفة، والوجوه ذات الألوان المتغايرة، والأعراق والأجناس القريبة والبعيدة، جاءوا من كل فج عميق بالحب لا بالكراهية، وبالإقتناع لا بالإنصياع،وكان الأمرالثاني؛ هو إننى انتابتنى حالة الخجل والتى سبقنى فيها أحد اساتذتى الذى لم اره وجها لوجه إلا إنه علمنى من خلال كتبه فى مطلع الثمانينيات وهو العظيم مصطفى محمود عندما جسد حالة الكسوف والخجل فى مقالته (امام قبر الرسول) بكتاب (الغد المشتعل)، وكان يتأسى على حالة الإتباع الشكلى التى انتابت البعض وربما الكثير ممن رأهم الراحل مصطفى محمود فقال: «.. وقفت أمام قبر الرسول الكريم مُنكس الرأس حياءً و قد هَرَبَت مِنى الكلمات.. كُلّى حياء منك يا رسول الله..أحسنت التبليغ عن ربك وما أحسنّا.. وأحسنت النصح لأمتِكَ وما نصحنا.. وحملت كتابك بقوة وما حملنا.. وانتصرت للحق وما انتصرنا.. واكتفى بعضنا بلحيته، وقال هى سنَّتَك.. وقصّر البعض جلبابه، وقال هو أمرك.. واستسهلوا السهل، وخانوا الأهل، واكتفوا من الدين بقشرته، ومن الجهاد بسيرته.. وقعدوا وقعدنا معهم.. ورَكِب أكتافنا الدون والسُوقة ورِعاع الناس وشذاذ الآفاق، وسفحوا دماءنا واستباحوا أرضنا وشتتوا شملنا.. ادع لنا ألا يطول علينا الليل وألا يدركنا الويل، وادع لنا نحن جندك فى مصر الذين قلت عنّا: أننا خير أجناد الأرض، وأننا فى رباط إلى أن تقوم الساعة.. أن نكون عند حسن ظنِك.. وأن نكون مصداقاً لنبوءتك وآية لرسالتك».
تذكرت درس الراحل مصطفى محمود امام مُعلم الدنيا والآخرة فوجدتنى ادعوا بدعاء واحد فى حضرته عليه الصلاة والسلام، سيدي: لحضرتك السلام من والدي، وكل أهلي، وأحبابى وجيراني، وأصدقائى وكل من أمننى بأمانة السلام أمام مقامك الجليل، وحتى خنق اللسان عبرات ساقتها امهات شهداء الوطن اللائى قد بعثن معى بسلام ام الشهيد لحضرته، وكثيرات حملننى امانة السلام لحضرته شفاء لأولادهن وستر لبناتهن وفى كثير كان السر بين من حملنى الامانة وبين صاحب المقام،حتى وجدتنى أبعث بالسلام لحضرته عن كل المصريين، وعن تراب مصر، وعندما نطق لسانى بتراب مصر بكيت، ثم بكيت حتى شفيت من كل سقمي!
شفى الله أسقام المصريين ومصرنا بالسلام على حضرة صاحب المقام (محمد).