في لعبة الشطرنج الجيوسياسية المعقدة، الضربة المؤلمة هي تلك التي تُصيب الخصم في خاصرته الرخوة لا في أطرافه. وإذا كانت واشنطن قد اعتمدت في السنوات الأخيرة استراتيجية خنق التنين الصيني عبر قطع الأوكسجين التكنولوجي عنه، وتحديداً في مجال أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية، فقد جاء الرد الصيني الأخير، كصاعقة مفاجئة، ليُعلن بدء مرحلة جديدة وخطيرة في هذا الصراع، مرحلة تضع بكين بموجبها يدها على مفتاح لا يقل أهمية عن الرقائق نفسها أي المعادن النادرة.
إن القرار الصيني، الذي أعلن عنه مؤخراً، والقاضي بفرض قيود صارمة على تصدير المعادن النادرة ابتداءً من ديسمبر القادم، ليس مجرد إجراء تجاري عابر، بل إعلان إستراتيجي واضح يُؤكد أن بكين قررت أن تقف أمام واشنطن والغرب بأكمله.
وعليه لم يعد الهدف صون المصالح أو التفاوض من موقع قوة، بل بات الأمر أقرب إلى حرب سيطرة تدار هذه المرة من عمق الأرض، حيث تستخرج كنوز المستقبل، حيث تكمن خطورة هذا القرار، وتحديداً في بنوده، في أنه يذهب إلى ما هو أبعد من مجرد تقييد التوريد. فالصين لم تكتف بمنع تصدير هذه المعادن، التي تُعدّ العمود الفقري لصناعات الطيران، والدفاع، والفضاء، والطاقة المتجددة في أمريكا وأوروبا، بل فرضت شرطاً وجودياً على المنتج النهائي عالمياً.
كما أن الفقرة الأخطر في هذا الإجراء هي تلك التي تمنح الحكومة الصينية الحق في منع أي منتج في أي مكان بالعالم من البيع في أي سوق، إذا احتوى ولو على نسبة ضئيلة من المعادن النادرة الصينية دون موافقة بكين المسبقة.
بالفعل إنها ضربة موجعة عبر تحويل المعادن إلى أداة رقابة كونية. تخيّلوا معي أن شركة يابانية أو أوروبية تستخدم جزءاً لا يُذكر من الليثيوم أو النيوديميوم الصيني في صناعة بطارية سيارة كهربائية أو في نظام توجيه صاروخ، يصبح مصير هذه الشركة ووجود منتجها مرهوناً بإشارة موافقة من عاصمة التنين الأحمر.
وبهذا القرار، يمكن ان تتحوّل المعادن النادرة من مادة خام ضرورية إلى حصان طروادة إستراتيجي يتسلل إلى عصب الصناعات العسكرية والتكنولوجية الأمريكية والأوروبية لينتهي التفوق التكنولوجي الغربي، ويهدد بتجميد عجلة الابتكار وتؤجل أحلام التحول الأخضر التي تعتمد بشكل كبير على هذه المعادن في توربينات الرياح والألواح الشمسية.
إذن هي معادلة الردع المتبادل.. في هذا المشهد بكين أصبحت تُطبّق سياسة المعادلة بالمثل ردا على واشنطن. فكما منعت أمريكا الشركات والدول من بيع الرقائق الإلكترونية التي تحتوي على التكنولوجيا الأمريكية إلى الصين، ردّت بكين بمنع بيع أي منتج يحتوي على موادها الخام الحيوية لأمريكا.
يمكن القول إن العالم دخل عملياً في مرحلة الردع الاقتصادي المتبادل، حيث يمتلك كل طرف سيفاً حاداً مسلّطاً على رقبة الآخر. والتبعات لم تقتصر على دوائر المال والأعمال وحسب، بل سُمع صدى هذا القرار في أروقة السياسة الأمريكية حيث وصف دونالد ترامب، بأسلوبه المعتاد، الصين بأنها دولة شريرة، واتهمها بأنها تأخذ العالم رهينة، مُهدّداً بفرض رسوم جمركية إضافية بنسبة 100 ٪ على السلع الصينية لكن هذا التهديد، الذي كان ليُحدث هزة عنيفة قبل سنوات، لم يُبدِ الصينيون تجاهه اهتماماً يُذكر.
إنهم يعلمون جيداً أن قوتهم الجديدة تمنحهم قدراً من المناعة ضد التهديدات التقليدية، وقد تعهدوا بالانتقام من أي رد أمريكي، مما يُنذر بتصعيد أكبر.
وعلى أعتاب المجهول فإن ما نراه اليوم هو تحوّل في ميزان القوى العالمي. فلقد استخدمت الصين ببراعة تفوقها في سلسلة التوريد العالمية، حيث تُسيطر على ما يزيد على 80 ٪ من إنتاج وتصنيع هذه المعادن، وبهذا، أزاحت بكين الستار عن سلاحها النووي الاقتصادي الجديد، مُحوّلةً المعادن النادرة من سلعة استراتيجية إلى أداة جيوسياسية بحتة.
يقف العالم الآن على أعتاب مرحلة غير مسبوقة من الصراع الاقتصادي والتكنولوجي. وسيُجبر هذا الإجراء الدول الغربية على إعادة التفكير في سلاسل إمدادها وبذل جهود مضاعفة ومُكلفة لتأمين مصادر بديلة لهذه المعادن، وهو ما سيتطلب سنوات وجهوداً استثنائية.
إن هذه الخطوة تُمثّل نقطة تحوّل، تُذكّرنا بأن السيطرة على العالم لم تعد تُقاس بعدد حاملات الطائرات أو الرؤوس النووية فحسب، بل تُقاس أيضاً بمن يضع يده على المعادن التي تشغّل هذه الترسانة، فمن يمتلك مفاتيح المستقبل من تحت الأرض، يمتلك القدرة على رسم خريطة القوة فوقها، والله وحده يعلم ما الذي سيحدث لاحقاً في ظل هذا التصعيد غير المسبوق.
