نكبة الإخوان اليوم ليست حدثاً عابراً ولا أزمة عابرة يمكن للتنظيم أن يتجاوزها كما اعتاد طوال عقود. ما نراه الآن هو الانهيار الأكبر فى تاريخ الجماعة منذ نشأتها، انهيار تتداخل فيه الضربات الخارجية مع التفكك الداخلي، وتتساقط خلاله الأقنعة التى طالما أخفت وجهاً سياسياً بحتاً خلف لافتة دينية براقة. فمن يتأمل المشهد يدرك أن الجماعة لم تعد تمتلك ما تدافع عنه أو ما تستند إليه، لا قاعدة تحميها، ولا خطاب يقنع الناس، ولا شرعية سياسية أو أخلاقية يمكن لها أن ترتكز عليها.
>>>
المؤكد أن الجماعة لم تكن يوماً مشروعاً دينياً كما ادّعت، بل كانت تستخدم الدين بوصفه وسيلة للتعبئة، وسلاحاً لاستدرار التعاطف وخلق صورة زائفة لنفسها. الدين عند الإخوان لم يكن غاية إصلاح أو بناء مجتمع، بل كان أداة صراع، وشعاراً جاهزاً يُرفع كلما ضاقت السبل. والوطن لم يكن هوية ولا انتماءً، بل مجرد ساحة لمعركة يسعون إلى السيطرة عليها. هذا هو جوهر المشكلة: تنظيم يقدّم نفسه باعتباره حارساً للقيم وهو فى الواقع أول من يضربها بالكذب والتشويه والافتراء واغتيال الخصوم معنوياً، حتى وإن كانوا من داخل صفوفه.
>>>
ولم يكن انفجار قضية سرقة أموال التبرعات المخصصة لغزة والأقصى سوى نتيجة طبيعية لهذا المنهج. حين خرج بيان حماس فى 2024 صريحاً فى توجيه الاتهامات إلى جهات وشخصيات محسوبة على الإخوان بالاستيلاء على الأموال، اهتز التنظيم من الداخل قبل أن يتلقى ضربة من الخارج. ذلك البيان لم يفضح عملية سرقة فحسب، بل فضح بنية كاملة من الاستغلال والمتاجرة بقضايا الأمة من أجل جيوب بعض القيادات. لقد سقط واحد من أهم الأقنعة التى طالما احتمى بها الإخوان أمام قواعدهم: قناع «نحن صوت المظلومين». فإذا بمن كانوا يرفعون شعار الدفاع عن غزة هم أول من يتربح باسم غزة.
>>>
أما على المستوى الدولي، فالعاصفة لا تقل عنفاً. إعلان الرئيس الأمريكى نيته تصنيف الجماعة كتنظيم إرهابى كان بمثابة ناقوس خطر دفع عواصم أوروبية عدة إلى التحرّك فى الاتجاه نفسه. الغرب الذى احتضنت مدنه لعقود مؤسسات ومراكز محسوبة على الإخوان بدأ يدرك أن التنظيم استغل تلك المساحات من الحرية لبناء شبكات نفوذ وتمويل عابرة للحدود. اليوم تتحرك الحكومات هناك بإيقاع سريع، تغلق جمعيات، وتدقق فى حسابات، وتعيد تقييم العلاقة مع كل ما يتعلق بالجماعة. إنها المرة الأولى التى تواجه فيها الجماعة ضغطاً بهذا الحجم من دوائر ظلت لعقود مجالاً آمناً لها.
>>>
وفى ظل هذا المشهد المضطرب، لم يجد التنظيم الدولى سوى الهروب إلى باكستان، وتحديداً إلى مدينة لاهور، لعقد اجتماع يمكن وصفه بأنه محاولة استباقية للنجاة أو ربما آخر فرص الإنقاذ. الاجتماع جمع قيادات من أفرع مختلفة، وكل منهم يحمل همومه وانكساراته، ودار النقاش حول ملفات شديدة الحساسية. أول هذه الملفات كان الانقسام الداخلى الذى يعصف بإخوان مصر، بين جناح مقيم فى إسطنبول وآخر فى لندن، وهو انقسام لم يعد خافياً على أحد، انقسام على النفوذ والمال والشرعية، وليس على المبادئ كما يحاول البعض أن يوهم القاعدة.
>>>
الملف الثانى كان غزة، وكيف سيتعامل التنظيم مع مرحلة مابعد وقف إطلاق النار. فالجماعة تدرك أن القضية التى طالما استخدمتها فى حملات الكسب السياسى لم تعد بطاقة صالحة بعد الفضيحة الأخيرة. لذا يبحثون الآن عن بدائل جديدة تحافظ على «الزخم الإخواني» المعارض للدولة المصرية، حتى لو اضطروا لاصطناع ملفات جانبية أو اختلاق قضايا فرعية.
>>>
أما السنغال، فوصول الإسلاميين هناك إلى الحكم فتح شهية التنظيم الدولى لمحاولة بناء تحالفات جديدة قد تمنحه مخرجاً من عزلته. لكن الواقع على الأرض أكثر تعقيداً، فالتجربة السنغالية ليست قابلة للاستغلال بسهولة، ولا يمكن تحويلها إلى رافعة سياسية للتنظيم كما يخطط البعض. السودان بدوره يشكل صداعاً آخر؛ فالمشهد هناك يتجه نحو إخراج الإخوان من الحياة السياسية، وتضييق الخناق على شبكاتهم، وهو ما يقلق القيادات بشدة باعتبار السودان كان مركزاً مهماً لهم فى سنوات مضت.
>>>
ولا تتوقف دوائر الأزمة عند هذا الحد، فهناك أيضاً ملف ليبيا والجزائر والمغرب وتونس، حيث يتراجع النفوذ الإخوانى بشدة، إما بفعل تغير المزاج الشعبى أو نتيجة انهيار التحالفات السياسية التى كانت تمنح التنظيم موطئ قدم. أوروبا وأمريكا هما الجبهة الأخيرة التى يسعى التنظيم لإنقاذها، لكن المؤشرات لا تبشر بالنجاح، فالمناخ العام هناك يتغير بسرعة، والتحقيقات تتوسع، والروابط المالية باتت تحت المجهر.
>>>
فى المحصلة، يعيش الإخوان اليوم لحظة فارقة فى تاريخهم، لحظة تتجمع فيها كل تناقضاتهم وأخطائهم، لحظة يفقدون فيها السند والدعم والمكان، وتتكشف فيها حقيقة علاقتهم بالدين والوطن. إنها نكبة التنظيم بكل ما تعنيه الكلمة، نكبة لم تصنعها المؤامرات الخارجية كما يحلو لهم أن يرددوا، بل صنعتها أيديهم: الكذب، والإفك، والتمويل المشبوه، والصراع على النفوذ. ما يحدث اليوم ليس إلا الحصاد المرّ لسنوات طويلة من التضليل والاستغلال.









