- سعود عبدالعزيز البابطين: نستعيد اليوم سيرة معلم ومثقف واعٍ كان يغرس القيم قبل أن يزرع المعرفة
نظمت مكتبة البابطين المركزية للشعر العربي، فعالية استثنائية تحمل عنوان “يوم الوفاء“، تخليدًا لمسيرة الأديب الراحل عبدالكريم سعود البابطين، أحد أعمدة الإبداع في الأسرة الثقافية المعروفة بعطائها الفكري ودعمها المستمر للمشهد الأدبي العربي.
وجاءت هذه المبادرة تأكيدًا على حضور إرث الراحل في ذاكرة المكتبة ورسالتها، وترسيخًا لقيمة الوفاء لمن أسهموا في بناء الوعي وصون جماليات اللغة العربية، وتقديرًا لإسهاماته التي رسّخت القيم الإنسانية ورفدت الثقافة العربية بمنجزٍ نوعي. وانطلقت الفعالية بافتتاح معرض توثيقي ضم مقتنيات الأديبَيْن الراحلين عبدالعزيز سعود البابطين وشقيقه عبدالكريم سعود البابطين، إضافة إلى نماذج من إنتاجهما الأدبي، عاكسةً مسيرة إبداع عائلي ممتد ومؤثر.

سعود عبدالعزيز البابطين يلقي كلمته بفعالية “يوم الوفاء”
وعلى مسرح المكتبة، تولّى الشاعر رجا القحطاني تقديم فقرات البرنامج، حيث انطلقت الفعالية بالسلام الوطني لدولة الكويت، تلاه تلاوة قرآنية عطرة، وفي تقديمه قال الشاعر رجا القحطاني “الوفاء ليس كلمة تقال فحسب، بل هو موقف يعاش، وها نحن اليوم نجسده جميعا في هذه الندوة التكريمية للأديب عبدالكريم سعود البابطين، حيث سنصغي إلى كلمات من عاشوا معه الموقف واقتسموا معه الحرف، وكانوا له رفاقا في الفكر، وأبناء وإخوة في الحياة”. وألقى القحطاني قصيدة بعنوان “رحلة الإنجاز” ومن أجوائها “إذا انسجم الكلام فلا ملامُ، وفي يوم الوفاء لنا كلامُ، وتكبر مفردات القول مبنى، ومعنى كلمات عظُم المقامُ، وينهمر الثناءُ على أديبٍ، سما أدباً كما انهمر الغمامُ”.
سعود عبدالعزيز البابطين: عمي عبدالكريم كان مثالاً للفروسية الأخلاقية والإنسان النبيل
ورحّب رئيس مجلس أمناء مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين الثقافية، سعود عبدالعزيز البابطين، بالحضور، قبل أن يُلقي كلمة مؤثرة قال فيها: “نستعيد في هذا اليوم سيرة رجل عاش للأدب قبل أن يعيش لنفسه. عمّي عبد الكريم- رحمه الله- لم يكن مجرد أديب يترك حروفه على الورق، بل كان يؤمن بأن الثقافة فعلٌ يغيّر الوجدان، وأن الكلمة قادرة على أن تنهض بالإنسان. وحين كان والدنا- رحمه الله- يجوب العالم لانشغالاته التجارية في السبعينيات، تولّى عمّي رحمه الله- رعايتنا بأخلاق الأب، وقلب المعلّم، ووعي المثقف الذي يغرس القيم قبل أن يزرع المعرفة. كان- رحمه الله- مثالاً للفروسية الأخلاقية والإنسان النبيل الذي يهب وقته وجهده لمن يحب. أعطانا من وقته وقلبه ما يفوق طاقة أي شاب في عمره آنذاك؛ تابع تدريسنا وسلوكنا، حرص على أن نكبر بأخلاق راسخة وكان يُشعرنا دائماً أننا أولويته الأولى. لم يكن يؤدي دور العم فقط، بل دور الأب الحاضر في أدق تفاصيل حياتنا.
محبة لا تُنسى
علّمنا أن الأسرة رابطة تُمارس بالفعل لا بالخطاب. لذلك يبقى عمي عبد الكريم- رحمه الله- جزءًا راسخًا من تكويننا العاطفي والإنساني، وذكرى غالية لا يحدّها الزمن ولا تغيب عنها القلوب. رحمه الله بقدر ما منح وبقدر ما أثرى حياتنا بمحبةٍ لا تُنسى” .

جانب من فعالية “يوم الوفاء” احتفاءً بالأديب الراحل عبدالكريم سعود عبدالعزيز البابطين
تلا الكلمة عرض فيلم وثائقي تناول محطات الراحل الفكرية وإسهاماته في بناء الوعي الثقافي.
«ندوة فكرية عن الراحل عبدالكريم سعود البابطين»
في غضون ذلك، انطلقت ندوة فكرية أدارها الإعلامي د. غالب العصيمي، شارك فيها نخبة من المفكرين والأكاديميين: الدكتور رشيد الحمد، والدكتور أحمد السعدان، والمهندس عادل أحمد البابطين، إلى جانب خليل علي حيدر والدكتور عبدالعزيز بن لعبون. وقد تناولت الندوة الشواهد الفكرية لإبداع الراحل عبدالكريم سعود البابطين، ودوره في ترسيخ قيم الثقافة والتنوير، وتعزيز المسؤولية الاجتماعية للمثقف العربي.

نخبة من المفكرين والأكاديميين يشاركون في ندوة فكرية بفعالية “يوم الوفاء”
«سلسلة نوادر النوادر من الكتب»
استهل أ.د رشيد الحمد الحديث باستعادة ذكرياته مع الراحلين عبدالعزيز وعبدالكريم البابطين، مؤكداً أنه رافقهما في أسفار كثيرة شكلت محطات لا تُنسى. وأشار إلى سلسلة «نوادر النوادر من الكتب» التي بذل الراحل جهداً كبيراً في جمعها، إذ ضمّت أقدم المطبوعات النادرة التي تمثل ثروة معرفية مهددة بالاندثار، فكانت إحدى أبرز مفاخر مكتبة البابطين وإسهاماً حقيقياً في نشر الأدب والثقافة عالمياً.
وأضاف الحمد: «استلطفت كلمة النوادر، فالراحل نفسه كان نادراً في طبعه وتواضعه وأخلاقه. عرفته في دواوين الكويت وفي ندوات مؤسسة البابطين الثقافية، وكان حضوره يضفي على المكان ألفة ومحبة واحتراماً». وتابع: «كان يعجبني تواضعه الجمّ، إذ اعتاد الجلوس في المقاعد الخلفية ليفسح المجال للضيوف في الصفوف الأمامية.

جانب من المشاركين في فعالية “يوم الوفاء” احتفاءً بالأديب الراحل عبدالكريم سعود البابطين
«سنوات الدراسة في الجامعة»
من جهته، قال أ.د أحمد السعدان إنه تعرف على الراحل في الجامعة عام 1966، حيث اختار عبدالكريم كلية التجارة بينما التحق هو بكلية الحقوق. ومضى يقول: «آنذاك شعرت بقربه مني في جوانب كثيرة، فانسجمت روحانا وتوثقت صداقتنا، وظل اللقاء بيننا مستمراً طوال أيام الأسبوع».
وأشار السعدان إلى اللقاءات المتكررة التي جمعتهما أثناء المحاضرات المشتركة بين كليات الحقوق والتجارة والاقتصاد، لافتاً إلى الدور البارز للراحل في الأنشطة الطلابية، لا سيما الندوات الأدبية والأمسيات الشعرية، كونه كان يحفظ الكثير من القصائد.وختم: «كنت شاهداً على كرمه اللامحدود وسجاياه النبيلة، فقد امتدت يده البيضاء إلى العديد من المشاريع الإنسانية داخل الكويت وخارجها، وصولاً إلى الولايات المتحدة.

الإعلامي د. غالب العصيمي- مدير فعالية “يوم الوفاء”
«ابن أسرة كريمة وتربى على مكارم الدين والأخلاق»
أما أ.د عبدالعزيز بن لعبون، فعبّر عن حزنه العميق لرحيل عبدالكريم البابطين قائلاً: «إن كل المصائب تبدأ كبيرة ثم تصغر مع الوقت… إلا فاجعة رحيل عبدالكريم البابطين؛ بدأت كبيرة وستظل كذلك».
وأضاف: «كان بالفعل ابن أسرة كريمة، نشأ في مجالس عامرة بالعلم والعلماء، وتربى على مكارم الدين والأخلاق. وقد تميز هو وإخوته بالحكمة والصبر والتسامح وبُعد النظر في التجارة والاستثمار». واستطرد: «كنا في طفولتنا لا نضيع وقتنا، نقرأ القرآن أو مجلة العربي أو كتب الأدب. كان يمتلك ذاكرة قوية وذائقة شعرية مميزة، وبنى بذلك شخصية ذات حضور أدبي وثقافي مؤثر».

جانب من المشاركين في فعالية “يوم الوفاء” بمكتبة البابطين المركزية للشعر العربي
«حصار التواضع من الراحليْن عبدالعزيز وعبدالكريم البابطين»
في سياق موازٍ، أعرب الكاتب خليل علي حيدر عن فخره بوجود شخصية مثل عبدالكريم البابطين في الأدب الكويتي والعربي. وأوضح أنه لم يجلس إليه مباشرة، لكنه نشر يوماً مقالاً عن أحد الكتب ضمن سلسلة «نوادر النوادر من الكتب»، فتلقى اتصالاً من الراحل عبدالعزيز البابطين يخبره بأن عبدالكريم يرغب في محادثته، وقد تواصل معه بالفعل وأثنى على ما كتب. وأكد حيدر أن «عبدالعزيز وعبدالكريم البابطين- رحمهما الله- يحاصرانك بتواضعهما، إذ يتحدثان ببساطة ورزانة وعمق». وأشار إلى أن مؤسسة البابطين تولي التراث العربي اهتماماً كبيراً، وتضع أموالها في ما ينفع المجتمع والإنسانية، وهذا — على حد وصفه — هو العطاء الحقيقي.

فعالية “يوم الوفاء” احتفاءً بالأديب الراحل عبدالكريم سعود البابطين بمكتبة البابطين
«خصلة التراضي والتسامح»
أما المهندس عادل أحمد البابطين، فقال: «الحديث عن سيرة الفقيد يحتاج إلى وقت طويل، لكنني سأختصر، فقد كان ذا خُلق كريم وعطاء لا حدود له، ويمتلك كنزاً من المحبين». وأوضح أن علاقتهما بدأت منذ الطفولة، جمعتْهما القرابة والزمالة ثم الصداقة التي لم تنقطع حتى رحيل الراحل.
وتوقف عند «خصلة التراضي والتسامح» التي تميّز بها عبدالكريم، واصفاً إياها بصفة ليست سهلة، إذ تجنح النفس عادة إلى رد الفعل بالمثل، لكنه قدّم المحبة والتسامح على كل شيء. واستذكر حادثة إنسانية وقعت أثناء عودته من الولايات المتحدة، حين أبلغته موظفة المطار زوراً بإلغاء رحلته، واتضح لاحقاً أن الأمر كان بدافع عنصري. ورغم كسبه القضية وحصوله على تعويض كبير، طلب من محاميه التنازل عن المبلغ والاكتفاء بالاعتذار، في مثال يجسد نقاء قلبه وسمو أخلاقه.

ندوة فكرية احتفاءً بالأديب الراحل عبدالكريم سعود البابطين في فعالية “يوم الوفاء”
واختُتم برنامج «يوم الوفاء» بقصيدة مهداة إلى روح الراحل ألقاها الشاعر رجا القحطاني، جاءت تجسيداً لمحبّةٍ راسخة وتقديرًا لمسيرة ستظل باقية بلون الحبر ودفء الذاكرة.
مكتبة البابطين المركزية للشعر العربي أكدت أن هذا اليوم جاء وفاءً لمن حمل الكلمة رسالة، ولمن جعل من الأدب جسرًا للسلام والجمال، لترسيخ مكانته في سجل المثقفين العرب. “يومالوفاء” لم يكن تأبينًا، بل احتفالًا بوجود لا ينقطع؛ وجودٍ ترك بصمته في مسار الثقافة العربية، ورسالة تستمر ما دام هناك من يكتب، ويقرأ، ويحمل الوفاء للأدباء والمثقفين الكبار.









