بقلم : أحمد ناجى قمحة
تُعــد زيــارة السيــد الرئيس عبدالفتاح السيسى لأكـاديميـة الشـرطة يـــوم 18 نوفمبر 2025، وما تضمنته من حوار تفاعلى مباشر مع المتقدمين فى مرحلة كشف الهيئة، حدثًا سياسيًا وتنمويًا، يحمل دلالات منهجية عميقة جدًا، يمكن قراءتها كرسائل غاية فى الأهمية فى هذا الوقت من عمر الوطن.. يمكن تصنيف هذا الحوار كخطاب تأسيسى ثانٍ للجمهورية الجديدة بعد الخطاب التأسيسى الأول لها مع تحويل مبادرة «حياة كريمة» لتصبح مشروعًا قومياً فى 15 يوليو 2021.
عنــد إعـــلان الجمهـــوريّة الجـــديدة ركّـــز الرئيس السيسى على أهمّيّة المشاريع الهندسية التى تقوم بها الدولة فيقول: «مصر فيها 100 مليون مصري، كمان مساحتها مليون كم2، لكن فيه حجــم من الأراضى إحنا مش عايشين عليه، إحنا بنتحرك فى الجــديد والقـديم، الموضوع مش مبانى بس، ده تطوّر كبير إحنا بنعمله»، تظهر من هذه العبارة حينها معالم تفكير جديد وطموح جديد يتميّز به النظام الحالى عن سابقيه، فمشاريع البناء وعلى رأسها العاصمة الإدارية الجديدة تأتى ضمن توجُّه لإعادة تشكيل المساحة الجغرافية للدولة، وإعادة توزيع المواطنين عليها، كما كانت أحد أهم المستجدات فى الجمهورية الجديدة ظهور فئات كانت غائبة عن سابقتها فى الخطاب الرسمى وعلى أجندة السياسات العامّة.
الحوار الذى دار بين الرئيس والمتقدمين لكشف الهيئة، يُعلن صراحة الانتقال إلى مرحلة جديدة تركز على رأس المال البشرى كمتغيّر مستقل حاكم، وليس تابعاً للبنية التحتية أو الإنجازات المادية، وهو ما يؤكد صدق مشروع بناء الإنسان، وموقعه فى إستراتيجية الرئيس.
فى دولة نامية كبرى تواجه ضغوطاً ديموغرافية هائلة، أكثر من 110 ملايين نسمة، حيث يشكل الشباب تحت سن 30 أكثر من 60٪ من السكان، وتحديات أمنية إقليمية مستمرة توترات فى ليبيا والسودان وغزة والبحر الأحمر وأزمات الطاقة العالمية، وإرثاً مؤسسياً يعانى ممارسات للفساد مزمنة تراكمت على مدى عقود من الحكم البيروقراطى والمحسوبية.. هل يظل النموذج الكلاسيكى للتنمية، الذى يبدأ بالاستثمار الجماهيرى فى التعليم والصحة ثم ينتقل إلى مرحلة الاختيار التنافسى فعالاً ومناسباً؟!، أم يصبح من الضرورى اعتماد نموذج معكوس – طبقه الرئيس السيسى والحكومات المتعاقبة فى سنوات حكمه- يبدأ بآليات اختيار صلبة وموضوعية قبل أى استثمار تدريبى أو بنيوى واسع النطاق، الأكثر فعالية لمواجهة تحديات الداخل المصرى المعقدة؟!
يُقدم الرئيس السيسى فى هذا الحوار إجابة صريحة ومباشرة ومدعومة بأمثلة عملية.. فالأولوية المعكوسة لرأس المال البشرى المدخل المناسب تماماً للسياق المصري، حيث يصبح الاختيار الدقيق والموضوعى الشرط السابق لأى استثمار تدريبى أو بنيوي.. هذا النموذج ليس مجرد تعديل تكتيكى أو إجرائي، بل تحول إستراتيجى كامل فى فلسفة الحكم والتنمية، يعكس وعياً عميقاً بطبيعة التحديات الهيكلية التى تواجه الدولة المصرية فى مرحلتها الحالية.
فى النظرية الكلاسيكية التى وضع أسسها تيودور شولتز «جائزة نوبل فى الاقتصاد 1979» وغارى بيكر «جائزة نوبل 1992» وجاكوب مينسر فى سبعينيات القرن الماضي، يُعامل رأس المال البشرى كمتغير يُنتج بشكل أساسى من خلال الاستثمار الجماهيرى الواسع فى التعليم والصحة والتدريب المهني، ثم يتم فى مرحلة لاحقة اختيار النخب والكفاءات من داخل هذه الكتلة المتعلمة الكبيرة.. هذا النموذج طبّقته دول شرق آسيا فى الفترة من 1960 إلى 1990 بنجاح ملحوظ ومُقاس، كوريا رفعت معدل الالتحاق بالتعليم الثانوى من 35٪ عام 1960 إلى 99٪ عام 1995، ثم بنت عليه نظام اختيار تنافسى شديد للخدمة المدنية «نسبة نجاح فى الدرجة التاسعة لا تتجاوز 1.7٪ حتى عام 2025، نفس النهج فى سنغافورة تحت لى كوان يو، وتايوان، واليابان بعد الحرب.
أما النموذج المصرى كما يتبلور بوضوح فى خطاب الرئيس السيسى، فيقلب هذا التسلسل تماماً ليصبح لدينا ما يمكن تسميته «الأولوية المعكوسة لرأس المال البشري».. فى هذا النموذج تأتى آليات الاختيار الصلبة والموضوعية فى المقدمة كشرط أولى وأساسي، يليها استثمار مكثف ومركز فى الكشف على هيئة المختارين فقط، ثم تأتى البنية التحتية المادية كمتغيّر تابع يدعم العمليتين السابقتين ويُشغّل بواسطتهما.
هذا التغيير المنهجى ضرورى لخمسة أسباب موضوعية.. أولاً، الحجم السكانى الهائل والكثافة الديموغرافية غير المسبوقة «110 ملايين نسمة فى مساحة صالحة للعيش لا تتجاوز 12٪ من الأرض»، يجعل الاستثمار الجماهيرى غير القابل للقياس مكلفاً اقتصادياً وغير فعال تنموياً، فتكلفة تعليم فرد واحد فى الجامعات الحكومية حالياً ما بين 40 إلى 60 ألف جنيه سنوياً، ومعدل البطالة بين خريجى الجامعات يتجاوز 30٪ حسب إحصاءات الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء لعام 2024/2025، مما يعنى هدر موارد هائلة.. ثانياً، الإرث المؤسسى للمحسوبية والفساد الإدارى الذى تراكم على مدى عقود يحوّل أى استثمار جماهيرى إلى موارد مهدرة أو مُعاد توزيعها لصالح مجموعات ضيقة، دراسات البنك الدولى «تقرير 2023» تشير إلى أن 25/30٪ من الموارد التعليمية والتدريبية فى مصر تُهدر بسبب سوء الإدارة والفساد الإدارى والمحسوبية فى التعيينات.. ثالثاً، السياق الأمني- الجيوسياسى المضطرب يفرض بناء نخبة واعية ومخلصة وكفء بسرعة قصوى قبل أن يصبح الاستثمار فى الكتلة الكبيرة ممكناً أو آمناً، فمصر تواجه منذ 2011 حروب جيل رابع وخامس «حرب الوعي، حرب السرديات، الحرب الإعلامية، الحرب الاقتصادية»، مما يجعل بناء كوادر أمنية وسياسية وإعلامية ودبلوماسية عالية الكفاءة والانضباط أولوية وجودية وفورية.. رابعاً، محدودية الموارد المالية نسبياً مقارنة بالحجم السكانى والتحديات، فنسبة الدين العام إلى الناتج المحلى انخفضت من 103٪ عام 2016 إلى نحو 88٪ عام 2025، بفضل برامج الإصلاح الاقتصادي، لكنها مازالت تفرض ترشيداً صارماً فى الإنفاق العام، مما يستحيل معه تمويل تعليم جماهيرى عالى الجودة للجميع فى وقت قصير.. خامساً، نجاح النموذج التجريبى فى بعض القطاعات الحيوية يثبت جدواه عملياً، فأكاديمية الشرطة نفسها تحولت منذ 2014 إلى نموذج اختيار صلب نسبة قبول 2/3٪ فقط، بعد 7 مراحل موضوعية من الاختبارات، مما أدى إلى ارتفاع ملحوظ فى أداء الجهاز الأمني، نفس الشيء فى الكليات الحربية والجامعات التكنولوجية الجديدة التى تطبق معايير قبول عالية.
هذا النموذج يتفق تماماً مع ما ذهب إليه دارون أسيموغلو وجيمس روبنسون فى كتابهما الشهير «لماذا تفشل الأمم؟» 2012، حيث يؤكدان أن الدول تنجح عندما تبنى مؤسسات قادرة على اختيار الأكفأ وليس الأقرب أو الأغنى أو الأكثر ولاءً قبل الكفاءة.
حدد الرئيس السيسى فى حواره ثلاثة مكونات أساسية مترابطة لبناء الإنسان فى الجمهورية الجديدة.. وهى الاختيار والتهيئة والوعي، ويربط بينها بروابط سببية واضحة ومنطقية.
1- الاختيار كشرط سابق وأساسى ووجودي
العبارات المحورية المتكررة فى الحوار التى تُكررت بصيغ مختلفة: مشكلتنا هتبقى دايماً فى اختيار الإنسان، لو اخترناه كويس وجهزناه كويس هيبقى كويس.. وفكروا 100 مرة، قبل اختيار من يمثلكم فى البرلمان.. وبلد فيها 60 مليون شاب، منقدرش نطلع منها 6 آلاف لاعب كورة زى محمد صلاح؟!
الاختيار هنا ليس عملية إدارية عادية أو روتينية، بل عملية سياسية- أمنية- تنموية ذات طابع وجودى للدولة ككل.. الرئيس يطالب بتعميم نموذج كشف الهيئة الذى يُعد أنقى آلية اختيار فى مصر حالياً، حيث نسبة القبول لا تتجاوز 2 إلى 3٪ بعد سبع مراحل موضوعية تشمل الفحص الطبى الشامل والبدنى والنفسى والثقافى والأمنى والمقابلة الشخصية وتحليل السلوك على كل القطاعات الحيوية فى الدولة.. هذا النهج يعنى إعادة تصميم كاملة لمنظومات التوظيف والترقى والترشح فى الدولة، بحيث تصبح الكفاءة والنزاهة والانضباط والوعى الوطنى هى المعايير الوحيدة القابلة للقياس والمحاسبة، مع استبعاد تام لأى وساطة شخصى أو أى نوع آخر من الممارسات التى تقوض الفرص بين المتقدمين.
2- التهيئة كاستثمار مكثف ومركز فى المختارين
بعد ضمان جودة المدخل البشرى من خلال الاختيار الصلب، يأتى دور الاستثمار المكثف فى التدريب والتأهيل وبناء المهارات والقيم. الرئيس يربط ذلك مباشرة بالعمل الجاد فى جميع القطاعات، قائلاً إن العمل الجاد بجميع القطاعات الضمانة لتحقيق التقدم للبلاد.. هذه التهيئة ليست عامة وجماهيرية فى البداية لأن ذلك غير ممكن مالياً وتنموياً، بل مركزة على المختارين لضمان أعلى عائد استثمارى ممكن على كل جنيه يُنفق.
مثال عملى واضح هو تحول أكاديمية الشرطة نفسها منذ 2014 من منشأة تدريبية تقليدية إلى مركز تدريب عالمى المستوي، مع مناهج تشمل العلوم الإنسانية والتكنولوجيا الحديثة واللغات الأجنبية والذكاء الاصطناعى إلى جانب التدريب الأمنى التقليدي.. هذا النهج ضمن أن كل جنيه يُنفق فى التدريب يعود بعائد مضاعف على أداء الجهاز الأمنى ككل، بدلاً من إهداره فى برامج جماهيرية غير محددة الأهداف أو غير قابلة للمحاسبة.
نفس المنهج يُطبق الآن فى الجامعات التكنولوجية الجديدة والمعاهد المتخصصة، حيث يتم اختيار الطلاب أولاً بمعايير عالية جداً، ثم ينغمسون فى برامج تدريبية مكثفة تشمل تبادلات دولية وتدريباً عملياً فى شركات عالمية.
3- الوعى كآلية تحكم دائمة ومستمرة
الوعى هو المحرك اليومى والآلية الدائمة للتحكم فى العمليتين السابقتين. الرئيس كرر كلمة «الوعي» أكثر من عشر مرات فى الحوار، قائلاً إن التزام المصريين بالعمل الواعى والمثمر سيكون مفتاح تحقيق الإنجازات، والوعى بأهمية اختيار الشخص المناسب لا يقدر بثمن.. الوعى هنا ليس شعاراً أجوف أو خطاباً بلاغياً، بل متغيّر قابل للقياس والتطوير والتقييم والمحاسبة. يشمل الوعى عدة أبعاد مترابطة:
> وعى بأولويات الدولة من أمن واقتصاد واستقرار وتنمية مستدامة.
> وعى بتكلفة الدعم غير الموجه، مثل 30 مليار جنيه سنوياً لدعم البوتاجاز وحده، التى يستفيد منها الأغنياء أكثر من الفقراء فى كثير من الحالات.
> وعى بأن عدد السكان الكبير يصبح قوة بشرية هائلة، فقط إذا تم توجيهه بشكل صحيح من خلال اختيار وتهيئة دقيقين ومنضبطين.
> وعى بأن التحديات الإقليمية والدولية مستمرة، وتتطلب تكاتفاً دائماً ورفضاً للشائعات والحروب الإعلامية.
الرئيس يطالب المجتمع ككل- وليس الدولة فقط- بالتحول من متلقى خدمات سلبى إلى شريك واعٍ ومسئول فى بناء الدولة، وهو ما يتطلب تغييراً ثقافياً وتربوياً عميقاً يبدأ من الأسرة والمدرسة الأساسية ويستمر فى الجامعة والعمل والمشاركة السياسية والانتخابات.
التحول من مرحلة المنشآت إلى مرحلة الإنسان
منذ تولى الرئيس السيسى المسئولية فى يوليو 2014 والدولة المصرية فى سباق مع الزمن لبناء بنية تحتية مادية تمنع انهيار الدولة وتضع أساساً للنهوض.. كل هذا تم فى ظل أزمات عالمية متتالية، جائحة كورونا، حرب أوكرانيا، أزمة الغذاء العالمية، حرب غزة، أزمة البحر الأحمر.. الرئيس يعلن اليوم بوضوح: هذه المرحلة انتهت عملياً.. الخرسانة صُبت، الحديد رُكب، الماكينات اشتريت، المدن بُنيت، الطرق فُتحت.. التحدى الآن لم يعد مادياً، بل بشرياً بالكامل.
حدد الرئيس فى الحوار ثلاثة معوقات رئيسية تواجه عملية بناء الإنسان، مع إشارات ضمنية إلى سبل التغلب عليها، التى تتمثل في:
المعوق الأول: الخلط بين المنشآت والبشر، حيث يقول الرئيس بوضوح: عملت المنشآت.. يتبقى البنى آدم.. اللى بيعمل البنى آدم مش المنشآت.. هذا الأمر يعنى أن بناء المنشآت- فى قناعة الرئيس- لم يعد كافياً وحده لتحقيق التنمية، إنما ينبغى تحويل كل مشروع كبير إلى منصة متكاملة للاختيار والتهيئة، بحيث لايتم تشغيل أى منشأة جديدة، إلا بعد اختيار وتدريب الكوادر المسئولة عنها وفق معايير كشف الهيئة.
المعوق الثاني: استمرار ثقافة المحسوبية والشعبوية، كما يتضح من مثال محمد صلاح، وكيف أن البلد التى بها 60 مليون شاب لا تستطيع إنتاج 6 آلاف من اللاعبين فى مستواه، بسبب غياب منظومات الاختيار الموضوعى والمبكر.. هذا المعوق يمتد من الرياضة إلى السياسة والإدارة والتعليم، لذا ينبغى إطلاق حملة وطنية طويلة الأمد لتعميم ثقافة كشف الهيئة كقيمة مجتمعية، تشمل قوانين صارمة ضد الواسطة والمحسوبية، ومكافآت مالية ومعنوية للكفاءات، وتعليم الأطفال منذ الصغر على قيم النزاهة والمنافسة العادلة.
المعوق الثالث: استمرار الدعم غير الموجه الذى يستهلك موارد ضخمة يمكن توجيهها لبناء رأس المال البشري.. الرئيس يشير إلى أن تخفيض فاتورة الدين وإعادة توجيه الدعم هما السبيل لرفع مستوى المعيشة فعلياً، بما يعنى ربط إصلاح منظومة الدعم ببرنامج وطنى شفاف يحوّل المليارات الموفرة إلى منح دراسية وتدريبية وبرامج تهيئة للمختارين فى كل المجالات، مع آليات رقابة شعبية وبرلمانية تضمن عدم إهدار هذه الموارد مرة أخري.
لماذا تحتاج مصر مدينة إعلامية الآن؟
كان من أهم ما ذكره الرئيس عبدالفتاح السيسى فى الحوار الإعلان عن إنشاء مدينة إعلامية متكاملة على أعلى مستوى خلال 3 سنوات فقط، لم يكن خبراً عادياً أو مشروعاً اقتصادياً بحتاً، بل كان رسالة إستراتيجية عميقة تكشف عن رؤية شاملة لـ «حرب الوعي» التى تواجهها مصر منذ سنوات.
مصر تواجه منذ 2011، خاصة بعد ما يطلق عليه ثورات الربيع العربى وما تلاها من فوضى إعلامية، ثم حرب غزة 2023/2025 حرباً سردية شرسة على جبهتين:
1- الجبهة الخارجية:
> قنوات إقليمية وعالمية، ومنصات التواصل «تيك توك، إنستجرام، يوتيوب»، تسيطر عليها سرديات وروايات مضللة عن مصر، لا تخدم الأهداف الوطنية ولا المصلحة القومية للدولة المصرية.
> دول إقليمية تنتج محتوى بالعربية يصل إلى مئات الملايين، وباستخدام أحدث التقنيات، مستغلين التطور الهائل فى وسائل الإعلام التقليدى والحديث، وأيضاً فى منصات التواصل الاجتماعي.
2- الجبهة الداخلية:
> الشباب المصري، أكثر من 60 مليوناً تحت «30سنة»، نجد معظمهم يستهلكون محتوى أجنبياً أو ترفيهياً رخيصاً، يفرغ الوعى الوطنى ويروج لقيم استهلاكية أو متطرفة.
> أزمة الدراما والفن، معظم الإنتاج يركز على التفاهة أو العنف أو الإسفاف، مما يهدم الأسرة والقيم بدلاً من بنائها.
من هنا، أطلق الرئيس وعده بالمدينة الإعلامية الجديدة، التى ستكون سلاحاً إستراتيجياً لاستعادة السيادة الإعلامية المصرية، التى ستكون مدينة متكاملة بأحدث التقنيات ستوديوهات 8k، ذكاء اصطناعي، بث فضائي، منصات رقمية.
> ستسمح بإنتاج محتوى مصرى عالى الجودة ينافس عالمياً ويستقطب الإنتاج «دراما، أفلاماً، برامج، ألعاباً إلكترونية، كرتون».
> ستخلق آلاف الوظائف للشباب الموهوبين وتجذب استثمارات أجنبية.
باختصار، مصر تحتاجها لأن الإعلام أصبح سلاح الحرب الحديثة، ومن لا يملك إعلامه يفقد وعى شعبه ولا يملك فرصًا لفرض سرديته.
هذا الأمر، لا يعنى أن الإعلام المصرى حالياً مقصر فى القيام بواجبه، فهذا الإعلام تصدى ومازال لكل محاولات هدم الدولة، والمساس بأمنها وسيادتها، بل وتفوق على أقرانه بتمسكه بالقواعد المهنية والأكواد العالمية للمحتوى والمضمون، ولكن لماذا تحدث عنها الرئيس السيسى تحديداً الآن؟!
الرئيس لم يذكر المدينة عشوائياً، بل ربطها مباشرة بفكرته المحورية فى الحوار كله: المنشآت، تبنى فى سنوات.. أما الإنسان، فيبنى فى عقود.
قال حرفياً: بفضل الله خلال 3 سنين هيبقى موجود هنا مدينة إعلام.. بس أنا هبقى عملت ايه؟!.. عملت المنشآت، يتبقى البنى آدم.. اللى بيعمل البنى آدم مش المنشآت.. وهو ما يعنى فى تصوري:
1- إعلان عن استعداد مصر للمستقبل، وأن بناء وعى الإنسان المحور الرئيسى فيها.
2- تحذير مباشر من حرب الوعي، فالقناعات الحاكمة لفكر الرئيس السيسى تؤكد أن أكبر تهديد لمصر الآن ليس عسكرياً أو اقتصادياً، بل حرب الجيل الخامس وحرب السرديات، والسيطرة على الوعى عبر السوشيال ميديا.
3- توقيت سياسي، قديماً ذكر الرئيس عبارة شهيرة «يا بخت عبدالناصر بإعلامه»، والسفهاء صوروها أنها دعوة للسيطرة على كل وسائل الإعلام، ولم يعملوا العقل ليتفهموا أن الرئيس دائماً ما يشغله وجود إعلام قوى يشرح للشعب لماذا ما يحدث حوله من أحداث أمر ضروري، ويبنى وعياً جماعياً بكل ما يحيط بنا من تحديات وتهديدات ومخاطر.
دور الفن والثقافة فى بناء وعى الفرد
الإنتاج الدرامى والسينمائى والغنائى الحالي- باستثناءات قليلة جداً- يركز على ثلاثة محاور فقط:
> التريند والإيرادات.
> العنف والجنس والكوميديا السطحية.
> الاستهلاك والترفيه الرخيص.
هذا النوع من الإنتاج لا يبنى وعياً، بل يهدمه.. يُفرغ الشاب من أى انتماء أو طموح أو قيم.. المدينة الإعلامية الجديدة- فى تصوري- يجب أن تكون نقطة تحول جذرية:
1- إنتاج دراما تاريخية ووطنية عالية الجودة
> مسلسلات عن ثورة 1919، حرب الاستنزاف، نصر أكتوبر، معركة الإسماعيلية 1952، بناء السد العالي، شهداء الشرطة والجيش فى سيناء.
> أفلام سينمائية كبرى عن شخصيات مثل مصطفى كامل، سعد زغلول، طلعت حرب، جمال حمدان، أحمد زويل، مجدى يعقوب.
2- إعادة إحياء السينما الوطنية
> دعم إنتاج أفلام بجودة هوليوودية عن قيم العمل والكرامة والصمود مثل فيلم «الكرنك» أو «الأرض»، لكن بتقنيات 2028، إضافة إلى جذب شركات الإنتاج العالمية للعمل من داخل هذه المدينة التى أشار دولة رئيس الوزراء إلى أنها ستكون بجوار المتحف المصرى الكبير ومنطقة الأهرامات مباشرة.
> إنتاج أفلام عن حياة كريمة، العاصمة الإدارية، قناة السويس الجديدة، ليس كدعاية بل كقصص بشرية ملهمة.
3- الموسيقى والغناء الوطنى الراقى
> إعادة إحياء الأغنية الوطنية بأصوات شبابية جديدة وتوزيع عالمى مثل أغانى أم كلثوم وعبدالحليم وعبدالوهاب، لكن بلمسة عصرية.
> مهرجانات موسيقية كبرى فى المدينة الإعلامية تجمع بين التراث والحداثة.
4- البرامج الثقافية والتوك شو الواعي
> برامج تاريخية يومية عن حضارة مصر من عصر قدماء المصريين إلى اليوم، بما يعكس مقومات تكوين الهوية المصرية الوسطية التى تصبغ شخصياتنا.
> برامج حوارية تجمع علماء ومفكرين حقيقيين، وليس نجوم التريند.
5- الرسوم المتحركة والألعاب الإلكترونية
> إنتاج كرتون مصرى عالى الجودة يغرس قيم العمل والانتماء للأطفال، بدلاً من استيراد كرتون أجنبى يروج لقيم مختلفة.
> ألعاب إلكترونية مصرية عن التاريخ المصري، مثل لعبة عن رمسيس الثانى أو معركة الكرامة.
الفن والثقافة أقوى من أى خطاب سياسي، لأن الفن يدخل القلب قبل العقل، والإنسان لا يتغير بأمر أو قانون، بل بقصة تُلهمه، بأغنية تُبكيه، بفيلم يجعله يقف احتراماً لعلم مصر.
الشاب الذى يشاهد مسلسلاً عن شهيد فى سيناء، سيفكر ألف مرة قبل أن يصدق شائعة على تيك توك.. الطفل الذى يشاهد كرتوناً عن طلعت حرب، سيحلم بأن يصبح رجل أعمال وطنى وليس «إنفلونسر» كهذه النماذج التى انتبهت لها مؤسسات الدولة وبدأت فى مواجهتها.
ختــاماً، يبـقى أن أؤكــد أن حـــوار السيــد الرئيس عبدالفتاح السيسى فى 18 نوفمبر 2025، يُشكّل لحظة تحول نظرى وعملى محورية فى مسار «الجمهورية الجديدة»، إذ يُعلن بوضوح نهاية مرحلة الاستثمار المادى المكثف 2014/2025، وبداية مرحلة جديدة تُعيد ترتيب أولويات دولة التنمية وفق نموذج «الأولوية المعكوسة لرأس المال البشري»، ويُمكننا اختزال هذا التحول فى معادلة تحليلية بسيطة ودقيقة:
> المنشــآت + إنســان غيــر مختــار وغير مؤهّل وغير واعٍ = أصول مادية ميتة أو قابلة للتحول إلى مصادر فساد وفوضي.
> المنشآت + إنسان مختار بعناية ومؤهّل تدريبياً وواعٍ بمسئوليته الوطنية = قوة دافعة لنمو مستدام واستقرار سياسى وتقدم حضاري.
إن نجاح هذا النموذج الجديد مرهون بتحقيق شرطين مترابطين.. أولاً، تعميم آليات الاختيار الصلبة والموضوعية، التى أثبتت نجاحها تجريبياً فى كشف هيئة أكاديمية الشرطة على كل القطاعات الحيوية السياسية، الإدارية، الإعلامية، الثقافية، الرياضية.. وثانياً، تحويل الوعى من شعار بلاغى إلى متغيّر قابل للقياس والمحاسبة والتطوير المستمر.
فى النهاية التحدى أصبح فى قدرة المجتمع المصرى ككل بمؤسساته ونخبه وأسره وشبابه، على إعادة إنتاج نفسه كمجتمع يضع الاختيار الموضوعى والعمل الواعى والالتزام الوطنى فى صلب ثقافته اليومية.. الاختيار لم يعد خياراً سياسياً أو إدارياً فحسب، بل أصبح شرطاً وجودياً لاستمرار «الجمهورية الجديدة» ككيان قوي، مستقل، ومزدهر.. وكما أن مرحلة المنشآت استغرقت عقداً كاملاً من الجهد الاستثنائي، فإن مرحلة الإنسان ستستغرق عقوداً أخرى على الأقل، لكن نجاحها الضمانة الوحيدة لأن تتحول كل الإنجازات المادية من مجرد إرث تاريخى إلى قاعدة انطلاق لحضارة جديدة.









