هناك معارك يخوضها الإنسان مع الآخرين، ومعارك أخرى يخوضها مع الزمن والظروف، لكن أصعب المعارك على الإطلاق هى تلك التى يخوضها مع نفسه. فالنفس ليست خصمًا يسهل الانتصار عليه، بل هى كائن يتلون بالرغبات، ويتشكل وفق الهوي، ويقود صاحبه – إن لم يحكم زمامه – إلى مسارات لا تشبهه ولا تشبه ما يؤمن به. وفى زمن تختلط فيه الأصوات، وتتداخل المعلومات، وتضيع الحقائق بين ركام الضجيج، يصبح التجرّد فضيلة نادرة، وملاذًا آمنًا، وطريقًا مستقيمًا وسط طرقات كثيرة تفضى إلى التيه.
>>>>>
التجرّد – فى جوهره – ليس تعاليًا على الذات ولا انفصالًا عنها، بل هو قدرة على النظر إلى الأمور بلا لون مسبق، ولا رغبة تدفع الإنسان نحو حكم جاهز. هو أن يرى الإنسان الحقيقة كما هي، لا كما يتمنى أن تكون. وأن يعود إلى أصل الفكرة قبل أن يلتف عليها الهوى فيشوّهها، أو يرسمها على مقاس رغباته. فالأهواء بطبيعتها خادعة؛ تزيّن الباطل، وتلمّع ما لا يستحق، وتجعل الإنسان أسيرًا لانحيازات لا يشعر بها.
>>>>>
ومن يتأمل تاريخ الفكر الإنسانى يجد أن أعظم العلماء والفلاسفة والمصلحين لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بعد أن انتصروا على أهوائهم. فالعقل لا يعمل بكامل قدرته إلا حين يتحرر. والروح لا تسمو إلا حين تتخفف من غرورها. حتى الحكام الذين صنعوا لحظات فارقة فى التاريخ كانوا يدركون أن أسوأ الأخطاء تبدأ حين يختلط الحكم بالهوي، وحين تتقدم الرغبة على الحكمة. والتاريخ شاهد على أن أكثر القرارات ظلمًا لم تصنعها الحقائق، وإنما صنعها الهوي، وأن أكثر المظالم اشتعلت لأن صاحب القرار رأى بعين واحدة، لا بعينى العقل والعدل.
>>>>>
إن التجرّد ليس سهلاً، لأنه يطلب من الإنسان أن يحمل مرآة أمام نفسه، وأن يرى ما لا يحب أن يراه. يطلب منه أن يسأل نفسه أسئلة قاسية: هل دافعى هو الحق؟ أم الانتصار لرأيي؟ هل أبحث عن الحقيقة؟ أم أبحث عن تبرير لِما أؤمن به؟ هل أنا منصف؟ أم أريد أن أكون الطرف المنتصر بأى ثمن؟ هذه الأسئلة لا تُطمئن النفس، لكنها تُنقذ صاحبها من الوقوع فى أسر الهوي.
>>>>>
ولعل أجمل ما فى التجرّد أنه لا يصنعه الخطاب، بل يصنعه السلوك. فالمتجرّد لا يحتاج إلى إعلان تجرده، لأنه يظهر فى قوله، وفى حكمه، وفى طريقته فى التعامل مع الأحداث. المتجرّد لا يتسرع، ولا يقفز إلى النتائج، ولا يحكم قبل أن يسمع. يزن الأمور بميزان العقل، ويترك مسافة بينه وبين رأيه، حتى لو كان هذا الرأى شديد القرب من قلبه. يعرف أن الرأى قد يغويه، وأن الهوى قد يتسلل فى ظلال الاقتناع دون أن ينتبه.
>>>>>
وفى الحياة اليومية، نرى كيف يقود الهوى الناس إلى الخلاف، وكيف تُفسد الانحيازات علاقات كانت قوية، وتقطع أوصالًا كانت عامرة بالمودة. الهوى يجعل الإنسان يرى نصف الحقيقة، أو ظلالها، ثم يبنى عليها أحكامًا وقرارات. الهوى يرفع إنسانًا فوق قدره، ويهبط بآخر دون حقه. الهوى يبدل صديقًا إلى خصم، وخصمًا إلى عدو. ولو كان الناس أكثر تجرّدًا، لقلّت الخصومات، ولصار النقاش بابًا للفهم لا ساحة للصراع.
>>>>>
إن التجرّد يمنح الإنسان قدرة على فهم الآخرين، لأنه يزيل عن عينيه غشاوة الحكم المسبق. يعطيه حكمة النظر من زوايا متعددة، فلا يستسلم لأول ما يسمع، ولا يكتفى بما يحبه أو يكرهه، بل يبحث عمّا هو أعمق وأصدق. والتجرّد أيضًا يحرر الإنسان من الانفعال اللحظي، ويجعله أقرب إلى السكينة. فالمتجرّد لا يهتز مع كل شائعة، ولا يندفع مع كل رأى عابر، لأنه لا يضع العاطفة فى مقعد القيادة.
>>>>>
وحين يتجرد الإنسان، تتغير علاقته بالحياة. يصبح أكثر إنصافًا فى الحكم على الآخرين، وأكثر رحمة فى تقييم أخطائهم، وأكثر صدقًا فى النظر إلى نفسه. لا ينسب النجاح كله لذكائه، ولا الفشل كله لأعذار خارجية. يعرف أن الحقيقة ليست دائمًا فى صفه، وأن الحكمة لا تسكن عقلًا واحدًا. وهذا وحده يكفى ليجعل صاحب التجرّد إنسانًا أفضل، وأكثر نضجًا، وأقرب إلى جوهر الإنسانية.
>>>>>
ويخطئ من يظن أن الابتعاد عن الهوى هو قمع للمشاعر أو تجاهل لها. بالعكس، هو ترتيب للمشاعر ووضعها فى موضعها الصحيح. فالعاطفة جزء من الإنسان، لكنها ليست البوصلة. يمكنها أن تدفئ القرار، لكنها لا يجب أن تقوده. والإنسان حين يدرك هذا التوازن يصبح قادرًا على اتخاذ قرارات أقرب إلى الحكمة وأبعد عن التهور.
>>>>>
إن العالم اليوم بحاجة إلى عقول متجرّدة أكثر من أى وقت مضي. بحاجة إلى من ينظرون إلى الأمور كما هي، لا كما يريدون أن يروها. وبحاجة إلى أناس يعترفون بأن الحقيقة قد تكون عند غيرهم، وأن الخطأ قد يكون نصيبهم. فالتجرّد قوة، لا ضعفًا. ووضوح، لا ترددًا. ونضج، لا حيادًا باردًا.
>>>>>
وفى النهاية، يبقى التجرّد طريقًا طويلاً، لا يُقطع بخطوة واحدة. لكنه الطريق الوحيد الذى يقود الإنسان إلى حكم راشد، ورؤية صافية، وضمير مستريح. طريق يبتعد فيه المرء عن هوى النفس، ويقترب من نور الحقيقة.









