يفرق علم السياسة بين قدرة الدولة و قوة الدولة، فالأولى تشير إلى مجموع طاقات وموارد الدولة، سواء التى تستخدمها أو تلك التى لا تستخدمها وتُساهم بصورة مباشرة فى تحرك تلك الدولة سياسياً لتحقيق مصالح خاصة بها، أما القوة فهى تعبئة تلك الطاقات والموارد وتحريكها من خلال الإرادة والقرار السياسى، وتشمل الأدوات الدبلوماسية والعسكرية وغيرها.
و الآن يعود النقاش المتعلق بالقدرة والقوة فى العلاقات الدولية ليشغل الباحثين والسياسيين و صناع القرار عندما استشعروا لحظة قادمة يتأهب فيها ميزان القوى العالمى لإعادة تشكل فى ظل حراك سياسى جديد يشهده العالم لاسيما المتعلق منه بالجغرافيا و فى خضم صعود متسارع لقوى دولية جديدة و جديدة قديمة تحاول استعادة مكانها على ميزان القوى، و ما من شك أن تصادم المصالح والصراع على النفوذ يفرض على الجميع تبنى استراتيجيات قائمة على سلطة القدرة والقوة، فبالنظر للصراعات الدائرة فى العالم الآن سنجد على سبيل المثال دولة تمتلك القدرة لكنها مع الأسف ينقصها القوة الكافية لاستغلال هذه القدرة، و أقصد القوة هنا بمفهومها الشامل.
الشاهد أن العلاقات الدولية تتسم بالديناميكية والتطور، و التغير من حال إلى حال وفق مصالح عناصر المجتمع الدولى مع بعضها و وفق التطور الحقيقى فى مفهومى القوة و القدرة لكل دولة، فلا جدال فى أن هناك دول تلاشت واختفت و دولاً أخرى تمزقت، وفى المقابل هناك دول نهضت من بعد ضعف و اختارت مسارات تعزز بها قوتها وقدرتها لتكتسب مكانا على الخريطة، وتستعيد أمجادها و بمناسبة الخريطة فلا خلاف أيضا على أن خريطة العالم كانت منذ قديم الأزل مادة خصبة للصراعات و التنافس على القوة و القدرة فكم من دول ابتلعت دولاً أخرى فى لحظة ضعف للأخيرة،
اخترت الحديث عن قوة وقدرة الدولة لأشير إلى أن الدول التى لن تنتبه لتعزيز قوتها وقدرتها ستواجه تحديات كثيرة أهمها تحدى البقاء، ومقاومة التآكل من الداخل.
وفى الحالة المصرية أتعجب من هؤلاء الذين يستكثرون على دولة كبيرة قديمة مثل مصر، وراءها سبعة آلاف سنة حضارة أنها تصارع من أجل تعزيز قدرتها و تفعيل قوتها الصلبة و الخشنة، ويربطون مستقبل الدولة بمجرد أهداف وقتية صغيرة، ويحاولون بث الفرقة بين الشعب ومؤسسات الدولة، زاعمين أن الحكومات المتعاقبة تتبنى أهدافاً ومشاريع يصفونها بالوهمية، أتعجب من أشخاص يفضلون انتظار السمك كل يوم ولا يريدون تعلم الصيد، أناس يطلبون الحماية و استقلال القرار السياسى و يستنكرون تسليح الجيش وبناء القوة العسكرية؛ أناس يتحدثون عن غياب أو ضعف الاستثمارات الخارجية و يرفضون مشاريع البنى التحتية، و الطرق، أتعجب من هؤلاء الذين يتحدث العالم كله عن حضارتهم و آثارهم و متحفهم الكبير، وهم يرون الآثار حجارة و المتحف الكبير عبء على الدولة، واحتفال المصريين بالمتحف الكبير بدعة و ضلال، أناس لا يقدرون قدرة دولتهم ولا قوتها الشاملة، و يتصيدون فى أى ظروف اقتصادية صعبة قد يمر بها أى بلد فى العالم، هؤلاء هم من قالوا إن قناة السويس الجديدة ترعة أو تفريعة وهم من قالوا إن العاصمة الجديدة «فنكوش» و المنورويل بزخ لا أهمية له، وهم أيضا من تزعجهم فى كل مرة طوابير الانتخابات فى أى استحقاق دستورى و يصفونها بالمسرحيات، لمجرد أنهم منبوذون ولا رصيد لهم عند الناس، هؤلاء لا يحبون الخير للبلد و لا لأنفسهم و لا يحبون حتى أنفسهم، الحقد أعمى قلوبهم فهم لا يبصرون، و صاروا أعداء لكل و أى شىء، لا يهمهم قدرة و لا قوة الدولة قدر ما تعنيهم قدرة و قوة من يدفع لهم لأنهم فى الأخير جوقة من المرتزقة انطلقوا عبر إعلام سياسى فاسد،يتغذى على الشائعات و الفتن ويستهدف تفتيت المجتمعات من الداخل و تفعيل مخطط الفوضى.
فى حين يتنافس المتنافسون فى العالم الآن على نوع مستحدث من القوة هو «القوة الذكية»، يعكس قدرة الدولة على تسخير مقومات قوتها العسكرية والاقتصادية والناعمة معاً من أجل تحقيق مصالحها الوطنية، تجد من يريد بنا أن نعود للعصر الحجرى أن نعود لحرب الرماح و السهام فى عصر الحروب الإلكترونية، و الدعائية، فالآن مفهوم القوة لا ينحصر فى القوة التقليدية (العسكرية والاقتصادية) أو الحديثة وهى الناعمة، بل يجمع الأسلوبين معاً، الأمر الذى يمنح الدولة أفضلية كبرى على الساحة الدولية.. و الدولة التى تتوفر لها هاتان القوتان ينبغى التفاخر و التباهى بها و ليس مهاجمتها، فالعلاقات الدولية تتطور بتطور الدول وبقدرتها على تحديد مصالحها الوطنية والأسلوب الذى يخدمها لتحقيق تلك المصالح ومدى البراعة وفن التخطيط الاستراتيجى، لتطبيق ذلك الأسلوب سواء بالقوة التقليدية أو القوة الناعمة أو كلتيهما، الدول التى تخطو للأمام لا تلتفت لصراخ الحمقى فى الإعلام المشبوه .









