أصبح كثير من الناس اليوم يقادون إلى ما يراد لهم أن يروا لا إلى ما يختارون أن يفهموا. كل وسم أو مقطع فيديو أو «تريند» يلمع للحظات فنندفع نحوه كأنه الحقيقة المطلقة دون أن نتساءل عن خلفياته أو دوافعه أو حقيقته.
أحياناً أفتح هاتفى فأشعر أننى لا أبحث عن معلومــة بقدر ما أبحث عن اتجاه، عما يجب أن أراه اليوم.
فى مصر تتجاوز البطالة 20 ٪ وتحيط بنا تحديات خارجية وأزمات داخلية، ولم يعد التريند انعكاساً لاهتمام عفوي، بل أداة توجيه تُستخدم أحياناً لطمس الحقائق واستبدالها بصور مصنوعة ينخدع البعض فيها. كأنما يُراد لنا أن ننشغل بما هو ثانوي، بينما تتكدس القضايا الحقيقية على أرفف الانتظار. هكذا أصبحنا نستهلك التريند بدلاً من أن نستعيد وعينا.
يبلغ عدد مستخدمى وسائل التواصل الاجتماعى عالمياً نحو 5.4 مليار شخص، بينما تصل نسبة انتشار الإنترنت فى مصر إلى 81.8 ٪ من السكان، بمعدل استخدام يتجاوز 33 ساعة أسبوعياً للفرد. وفى مطلع 2025 بلغ عدد الحسابات الفعلية على السوشيال ميديا فى مصر نحو 50.7 مليون حساب تمثل 43 ٪ من السكان.
يحمل كل منا هاتفاً يعرف عنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا. يتعرف على بصمتنا ووجهنا واهتماماتنا وهواياتنا، وتجمع الخوارزميات تلك البيانات لتصنع «تريندات» تخــدم أهدافاً تجــارية محددة أو غيرها، أحياناً أتساءل: من يملك فعلاً هذا الهاتف؟ نحن أم تلك الخوارزميات التى تعرف متى نحزن ومتى نضحك؟
تشير الدراسات إلى أن 73 ٪ من المستخدمين العالميين يفضلون المقاطع القصيرة، بينما يقل التفاعل مع المحتوى التحليلى بنحو 60 ٪. وهكذا أصبح الزمن الرقمى زمناً للسرعة لا للتفكير، وللانفعال لا للتأمل. الوعى لا يحتاج إلى إنترنت سريع، بل إلى تفكير أبطأ قليلاً.
نتابع ما يحدث حولنا بسرعة الضوء، لكننا ننسى أن نمنح عقولنا ثانية واحدة لنسأل: من أشعل هذا الضوء ولماذا؟ وحين يصبح السؤال «هل يتداول الجميع هذا؟» بدلاً من «هل هذا صحيح؟» نفقد قدرتنا على الحكم ونصير مجرد متلقين لا منتجين لأفكار أو معرفة. فى ثقافة تقدّر «التريند» أكثر من الفكرة يتراجع العقل الجاد وتعلو الأصوات الصاخبة والمثيرة، فيتحول المجتمع إلى مستهلك للمشاعر اللحظية بدلاً من أن يكون منتجاً للفكر والإبداع.
الأرقام الهائلة لمستخدمى الإنترنت فى مصر يجب أن تكون قوة بناء لا استهلاك. لا نريد «شعب تريند» بل «شعب وعي» يستخدم هاتفه لإنتاج المعرفة لا لتمرير الوقت. التغيير الحقيقى يبدأ من وعى فردى يقرر ألا يركض وراء كل وسم، وأن يسأل دوماً من صنع هذا التريند ولماذا.
لسنا ضد الجديد، لكننا ضد أن نتحول إلى جمهور يساق بلا وعي. التكنولوجيا ليست عدواً، بل مرآة لما نحن عليه. ثقافة التريند ليست مجرد ظاهرة رقمية، بل مرآة لحالة أعمق من الاستسلام للسطح وغياب المشروع الجمعى الذى يشرك المواطن فى قضاياه. الأمم التى تلهث وراء التريندات تهدر فرصتها فى التقدم والإصلاح.
الأمل باق ما دمنا نبحث عن الضوء الذى ينير العقول لا الوميض الذى يخدع الأبصار، ونعود للعلم والبحث والتفنيد لنستعيد ثقافتنا الأصيلة التى أبهرت العالم لآلاف السنين.









