«مهنة عامل النظافة» تشعر صاحبها الذى يعمل بالشارع بأنه شريك فى مهنة عامة
خبران محليان أثارا انتباهى فى الأيام القليلة الماضية.. الخبران حكوميان ويتعلقان بخدمتين مهمتين لتطويرهما.
الخبر الأول يتعلق بخدمة النظافة وينصب على الارتقاء بالعنصر البشرى العامل فى مجال النظافة.. ولكن.. كيف؟!
يقول الخبر ان ثلاث وزارات هى التضامن الاجتماعى والبيئة والتنمية والمحلية اتفقت على تغيير «المسمى الوظيفي» لمليونى «عامل نظافة» بتقسيمهم إلى فريقين: عامل جمع أو فرز.. وعامل إعادة تدوير وإصدار كارنيهات مزاولة المهنة لأفراد الفريقين كل بمسماه الوظيفى الجديد مع بحث حالتهم الوظيفية حيث ان جزءا من المليونين مؤمن عليهم والجزء الآخر عمالة غير منتظمة.
الخبر فى مضمونه نبيل يسعى إلى الارتقاء بالعنصر البشرى فى مهنة تشهد هذه الوزارات من خلاله ان العاملين بها يقومون «بعمل وطنى وإنساني»، كما ورد فى تصريحات مسئوليها وهذا صحيح تماما.. لكن هناك بعض الملاحظات عليه:
1 – تغيير المسمى الوظيفى هو نوع من التوصيف الإدارى لا يغير شيئا من الواقع الفعلى لصاحبه.
2 – المفروض أن يكون التغيير للأفضل وأن يبرز الجانب الإيجابى للمهنة.. وهذا ما لا يحققه الخبر بل العكس.. فأيهما أفضل حين نسأل عاملا بهذه المهنة عن وظيفته: أن يقول عامل «نظافة» أم عامل جمع أو فرز أو إعادة تدوير؟! وعندما نسأله: جمع أو فرز أو إعادة تدوير ماذا؟! فيضطر للقول: القمامة أو الزبالة؟!
3 – ان كل الهيئات الرسمية والشركات الخاصة العاملة فى هذه المهنة وفى مقدمتها الهيئات المسئولة عن هؤلاء العاملين اختارت الجانب الايجابى فى تسميتها.. فالهيئات أطلق عليها القانون مسمى «هيئة النظافة والتجميل» والشركات الخاصة تحمل اسم شركة كذا للنظافة وكلمة «عامل نظافة» تشعر صاحبها الذى يعمل بالشارع بأنه شريك فى مهنة عامة له زملاء فيها يعملون بكافة مؤسسات الدولة والقطاع العام والقطاع الخاص بل والبيوت.
4 – ان الاهتمام بالعنصر البشرى فى مجال النظافة يحتاج إلى الكثير غير تغيير مسماه الوظيفي.. وقد قامت هيئات النظافة والتجميل ببعض هذا الكثير مثل اختيار زى مناسب للعاملين يحمل اسم الهيئة وشعارها فى كل محافظة، لكن يبقى الحفاظ على صحة العامل نفسه من خلال تحسين بيئة العمل وتطوير أدواته التى يفتقد العامل أبسطها وأهمها فى نفس الوقت وهو «الجوانتي» الذى يقى يديه من التلوث عند جمع أو فرز أو تدوير القمامة فضلا عن «الكمامة» فى تفاصيل مهمته التى تحتاجها.
من هذا الكثير أيضاً تحسين دخل عامل النظافة بما يوفر له حياة كريمة من خلال تقرير بدلات عدوى أو بدلات مخاطر أو زيادتها ان كانت موجودة حتى لا نرى الكثير منهم يتجمعون أمام المساجد فى صلاة الجمعة كل اسبوع وسط المتسولين والمتسولات بما يسيء إليهم وإلى المهنة.
أما الخبر الثانى فيتعلق بإطلاق مشروع تطوير وميكنة منظومة الضرائب العقارية بالتعاون مع شركتين احداهما للتكنولوجيا تتبع وزارة المالية والأخرى استثمارية وذلك لإتاحة الخدمات عن بعد دون الحاجة إلى التوجه للمأموريات.
هذه خطوة مهمة ليس فى مجال الضرائب العقارية وحدها بل فى كل مجال نسعى لتطويره وهى أن نبدأ من حيث انتهى أو وصل الآخرون الأكثر تقدما وأعتقد ان هذه استراتيجية عامة للدولة فى بناء «الجمهورية الجديدة» والدولة نشطة للغاية فى هذا المجال.. مجال الميكنة والرقمنة ونشاطها هذا نجح فى فترة زمنية قصيرة فى جعل التعامل مع الميكنة والرقمنة جزءا من ثقافة عشرات الملايين من المصريين حتى ممن لم يكن لهم حظ فى التعليم وهو ما ينعكس حتى على زيادة حالة الوعى العام لدى المواطنين.
لكننا ونحن نطلق هذه الاستراتيجيات الخاصة بالميكنة والرقمنة من أعلى قمة أى جهاز أو هيئة أو مؤسسة علينا ألا ننسى حال العديد من الوحدات القاعدية فى هذا الجهاز أو الهيئة أو المؤسسة والفجوة الهائلة بين المستوى السييء الذى تعانيه وبين المستوى الحضارى الذى نطلق استراتيجيتنا للوصول إليه.
وهذا ما يتجسد فى وحدات الضرائب العقارية وربما فى بقية مصالح الضرائب.. العامة أو غيرها.
وهنا تأتى الأهمية البالغة للعنصر البشرى فى أن يكون مساعدا لعملية التطوير أو معرقلاً لها سواء بإرادته أو بظروف المكان الذى يعمل فيه.
أضرب مثلا بمأمورية الضرائب العقارية بالهرم التى أتبعها والتى أتمنى أن تحظى بزيارة ميدانية من رئيس المصلحة.
العاملون فى هذه المأمورية يمارسون عملهم فى أسوأ مكان وبيئة عمل يمكن تخيله.. وبأدوات تنتمى إلى منتصف القرن الماضي.
المأمورية تقع فى دور أرضى ضيق بشارع بلا رصيف.. مدخلها امتداد للشارع على نفس المستوى بلا فاصل.. المكاتب المتهالكة تتلاصق لا يكفى عددها أو عدد مقاعدها العاملين حتى ان بعضهم يعمل من الوضع واقفا.. تلاصق المكاتب لا يترك سوى ممرات ضيقة لا يزيد عرضها عن نصف متر بحيث يجد أى موظف أو موظفة صعوبة حين يريد أو تريد ترك المكتب للحصول على توقيع رئيسها.
عشرات، بل مئات الملفات الورقية القديمة المتآكلة التى تتناثر فى كل مكان بعد أن اكتظت بمثلها الدواليب الأكثر تهالكا.
المكان بلا تهوية.. بلا أى أدوات للعمل تنتمى إلى هذا العصر فمازالت أقلام «الكوبيا» وأوراق الكربون هى المستخدمة فى تحرير ايصالات سداد الرسوم لجمهور المتعاملين.. أى زخة مطر أو عاصفة ترابية فى الشارع تصل مياها أو أتربة للعاملين داخل المقر.
أشفق شخصيا على العاملين الذين وسط هذه الظروف يؤدون عملهم باجتهاد ويتعاملون مع جمهور عملائهم بلطف.. هم حقا جنود مجهولون يستحقون التكريم.
ستنجح الميكنة والرقمنة وغيرها من الاستراتيجيات، إذا نفذناها من أعلى بيد.. ومددنا اليد الأخرى لانتشال مثل هذه الوحدات القاعدية والعاملين بها من معاناتهم فى وقت جرى فيه تجديد وتطوير المقار الحكومية لمعظم الوزارات فى القاهرة والمحافظات ولا أتحدث عن العاصمة الإدارية ومقارها الجديدة التى تنافس الأعلى تقدما فى العالم.
الاهتمام الحقيقى والمؤثر بالعنصر البشرى هو القوة الرئيسية الدافعة لأى تنمية أو تطوير.