وسط هذا الكم الهائل من البرامج الإدارية وفق النظم الحديثة فى عالم ما بعد التخصص وتقسيم العمل، هناك خلل كبير وثغرة خطيرة لا ينتبه اليها الكثيرون، يبدو هذا الخلل غير مرئى فى خريطة توزيع الأدوار وإعلان التكليفات، لكن أثر هذا الخلل يظهر جليا وتكاد تراه بعينك المجردة دون أن تتمكن من وضع يدك على مسبباته، هناك مساحة من الفراغ الصامت بين الإدارات المعنية أو الوزارات المتخصصة، إنها المسافات البينية المسمومة والمهلكة والتى تمثل لعنة إدارية مكتملة الأركان، الغريب أن هذه المسافات لا يعترف بها الكثيرون ولا ينتبه اليها أحد، فالجميع منهمك فى المهام الموجودة فى دفتر تكليفاته، لا ينظر حوله ولا يكلف نفسه عناء النظر إلى من يتداخل معه فى جزء من مهامه، هناك من يؤمن بأن بقاءه فى منصبه يحتم عليه إلا ينظر فى ورقة غيره، وان عليه ان يستمر صامتا دون حراك، هؤلاء كثيرون فى مؤسساتنا وهؤلاء هم سبب نكبتنا الإدارية، يا سادة هب ان لدينا احتياجاً طارئاً إلى دواء معين من الخارج، وتقسيم الأدوار وفقا للمنظومة المتبعة يحتم علينا اتباع الآتي، ان يطلب الدواء بمعرفة وزارة الصحة، ثم يتم ترتيب عملية تحويل المبالغ المالية لدفع ثمن الشحنة ثم تبدأ عملية النقل من الخارج إلى الموانئ والمطارات المصرية ثم يتم الإفراج عنها بعد دفع الرسوم الجمركية ثم يتم نقل الدواء إلى المخازن المخصصة ومنه إلى الصيدليات ومنه إلى المرضى المنتظرون على احر من الجمر لوصول هذا الدواء، نفترض ان جميع الجهات قامت بدورها الصحة والمالية والنقل والجمارك والنقل الداخلي، لكن حدث أمر عارض وبسيط ولم ينتبه اليه احد، عندما وصلت الشحنة وتم الإفراج عنها وتم تحميلها على سيارة نقل لم تكن تلك السيارة مجهزة بدرجة التبريد المطلوبة ففسدت الشحنة ولم تعد صالحة للاستهلاك، ولم ينتبه احد وعندما تناول المرضى هذا الدواء لم تتحسن حالتهم المرضية بل ساءت وتوفاهم الله، هذه قصة خيالية لكن مثلها يحدث كثيرا فى الواقع، إذا تم تحويل الموضوع لجهات التحقيق سوف تتاكد ان جميع الوزارات قامت بواجبها وتستحق خطابات شكر، لكن النتيجة النهائية ان المرضى توفوا جميعا، إذن فى الظاهر اننا نجحنا لكن فى الواقع اننا فشلنا، السبب اننا لا ننظر جميعا لنفس الهدف لنعمل على تنفيذه بشكل جماعى وبروح الفريق الواحد، اننا نعمل كجدر منعزلة لا يرى بعضنا بعضا، هذا اللغز وهذا الفخ اسمه «المسافات البينية اللعينة» نعمل ونتحرك ونشقى ونعرق لكن الثمرة هى المحك، اننى ارى امامى كثيرا من هذه القصص والحكايات، نفكر فى موضوع المقال مثلا ويتم جمعه ومراجعته وإجازته ونشره وتدور المطبعة او ينشر على الموقع، فهل انتهت مهمتنا ككتاب وصحفيين ؟ الاجابة بالتأكيد لا، لأننا يجب ان نسأل انفسنا اولا لماذا نكتب ؟ ولمن نكتب ؟ وما هو الهدف من الكتابة ؟ علينا ان نضع تلك الاسئلة ونكون امناء مع انفسنا فى الإجابات، نكتب للقارئ توعية او اِخبارا او اِعلاما او إرشادا او استنهاضا، يجب ان نسأل انفسنا هل تحقق لنا ما نريد، ام اننا نعيش فى جدر منعزلة، فالأب يعمل طوال اليوم من اجل الحصول على الدخل والأم تعمل فى المنزل طوال اليوم من اجل بناء الأسرة، والأبناء يذهبون إلى المدرسة من اجل التعلم، والحياة تسير، لكن هل من مراجعة للأهداف الموضوعة والمسكون عنها نظرا لأنها معروفة ضمنا ولا تحتاج ذكراً، هل اجتمعت الأسرة وراجعوا حالة الأسرة ومستوى التعليم والثقافة والوعى والتربية؟ وهل جلس كل منا مع نفسه يراجعها على ما حققت من أهداف على جميع المستويات، بيد اننا نعانى من مسافات بينية لعينة حتى داخل انفسنا، فأنت تتحرك فى مسارات فى المنزل والعمل والنادى وجماعة الأصدقاء والحزب السياسى وربما لا تحاول أن تربط بينهما متناسيا او متجاهلا، الفرد والأسرة وبيئة العمل والمجتمع والحكومة، جميعنا نعانى من مرض المسافات البينية اللعينة التى تجعلنا لا نرى الصورة كاملة ولا نرى نتائج أعمالنا بشكل حقيقى.









