تطورت أساليب الحج هذه الأيام وأصبحنا نسمع للحج مسميات جديدة منها الحج السياحى والسريع والسوبر وغيرها.. ولكن لو قلبنا صفحات الزمن لنتعرف على طقوس الحج وعاداته منذ أمد بعيد فى صعيد مصر فمنذ قرابة ثمانية قرون كان للحج طراز خاص .. فبعد عيد الفطر يشد الحجاج رحالهم إلى الأراضى الحجازية ويلتقون فى مدينة « قوص « بمحافظة قنا – وأمام ساحتها الواسعة تضرب الخيام ويتجمع الحجيج زرافات ووجدانا وكان السيدان أبو الحجاج الأقصرى وحسن الصباغ رضى الله عنهما يعظان الحجيج فى أروقة الجامع العمرى الشهير بمدينة قوص. ومن الذين أشادوا بخطب السيد أبى الحجاج الأقصرى سلطان العاشقين الصوفيين عمر بن الفارض.
كان طريق الحج من «قوص» عبر ميناء عيذاب، والذى دام نحو قرنين من الزمان، كانت له تداعياته على الأوضاع الاجتماعية والثقافية فى جنوب مصر، وخاصة على صعيد الاحتكاك والتفاعل مع الآخر، وكان نتاج ذلك على سبيل المثال استقرار علماء ورجال صالحين من غير المصريين فى كثير من مدن الصعيد الكبري، ومنهم سيدى أبوالحسن الشاذلي، وسيدى عبدالرحيم القنائي، والإثنان من أصول مغاربية، فالأول حج عدة مرات وتوفى بصحراء عَيْذَابَ فى «حُمَيْتَرَة»سنة 656هـ أثناء موسم الحج، ودفن بها وبات مقامه مقصدا للزائرين من كل مكان. والثانى هو سيدى عبدالرحيم المغربى الملقب بالقنائى والذى قدم إلى قوص بعد انتهاء موسم الحج، ثم انتقل إلى قنا، واستقر فيها حتى وفاته 592هـ. ومنذ ذلك الحين يقام له مولد سنوى تجاوز عدد رواده ومريديه حاجز المليون فى السنوات الأخيرة. من المعلوم ان طريق الحج عبر عيذاب كان قد توقف عام 1266 ميلادية ( 665هـ)، واستؤنف طريق الحج القديم عبر صحراء سيناء عام 1267م (666هـ) واستمر هذا الطريق فى العمل قرابة ستة قرون حتى عام 1885 ميلادية. فى تلك الفترة تضاعفت متاعب وصعوبات رحلة الحج خاصة على سكان جنوب الوادى الذين كان عليهم السفر إلى القاهرة عبر نهر النيل (حيث لا سكك حديد وقتذاك)، ومن القاهرة إلى عجرود (السويس) وقلعة نخل ثم طابا ومنها إالى الناحية الأخرى بمحاذاة البحر الأحمر وصولا إلى جدة عن طريق البر. منذ عام 1898 ميلادية، باتت هناك محطة للقطار فى «قفط» تنقل المسافرين إلى القاهرة، واسهمت تلك المحطة فى تسهيل سفر الحجاج الى القاهرة.
يبدو أن اجدادنا القدامى كانوا أوفر حظا من غيرهم من الحجاج القادمين من الأندلس والمغرب العربي، وقتذاك (577هـ – 760هـ الموافق 1181- 1359م) كانت قوافل الحج القادمة من تلك البلدان تحط الرحال فى «حاضرة قوص» التى كانت كعبة العلماء طوال قرون عديدة، ومن قوص تنطلق القوافل الى ميناء «عيذاب» القريب من القصير.
خلال تلك الرحلة – التى كان يتم قطعها على ظهور الإبل فى عمق الصحراء محاذاة بساحل البحر الأحمر – تمر القافلة بقرية حجازة وتتوقف فى منطقة «الحاجر»، واللقيطة المتاخمة لـ قفط، ومنطقة «حميثرة»،وتتواصل المسيرة الى مكان يعرف بـ «مجاج» وهو مورد ماء، ومنه الى «الجسا» حتى منطقة «العشراء» ومنها الى «الخبيب»، ومن هناك تنطلق قوافل الحجاج عبر السفن الشراعية الخيطية الى جدة.
ولنا أن نتصور حجم المشقة التى كان يواجهها الحجاج القادمون من أقصى المغرب العربي…كانت رحلة فى غاية الصعوبة تبدأ من بلاد المغرب بحرا أو برا وصولا إلى الإسكندرية ومنها إلى ساحل الفسطاط وعبر نهر النيل تتوقف القوافل فى المدن الكبرى على النيل : منفلوط، أسيوط، أبوتيج، أخميم، البلينا، دشنا، قنا، وصولا إلى قوص حيث يستقلون الإبل فى قلب الصحراء إلى ميناء عيذاب.
رحلة الحجيج من الفسطاط بالقاهرة إلى قوص عبر النيل بالمراكب الشراعية كانت تستغرق نحو 18 يوما كما سجلها الرحالة الأندلسى «ابن جبير».. أما الرحلة البرية من قوص إلى عيذاب عبر الصحراء، فكانت تستغرق 17 يوما كما اشارت إلى ذلك إحدى الدراسات العلمية حول «رحلة الحج البحرية بين مينائى عيذاب وجدة».