فى لحظة صدق وتأمل، طرح عليّ أحد أصدقائى وهو أستاذ جامعى مرموق فكرة تستحق أن تكتب بحروف من وعى ومسئولية، حين قال لى: يا حبيبى، تواصلت مع بعض أمناء لجان ترقيات الأساتذة، وقلت لهم: لابد أن تتغير قواعد الترقيات، فى ضوء دور الذكاء الاصطناعى فى إنتاج الأبحاث العلمية خلال لحظات، وفى ظل وجود شركات متخصصة تنجز أى بحث وتنشره فى أرفع المجلات العالمية مقابل آلاف الدولارات.. لكن الرد كان صادماً: صعب تغيير القواعد المعمول بها.. هنا تبدأ القضية الحقيقية.. نحن أمام واقع جديد يعيد تشكيل مفهوم العلم ذاته، ويطرح تساؤلات عميقة حول جوهر الرسالة الجامعية.. فإذا كان البحث العلمى ينجز اليوم بضغطة زر، فمن أين يأتى الإبداع؟!.. وإذا كانت الشركات قادرة على إنتاج «بحث مثالى» بمعايير النشر الدولى، فأين موقع الأستاذ الجامعى المجتهد الذى أفنى عمره بين المراجع والمختبرات؟!
تآكل القيمة الحقيقية للبحث العلمى
ما نشهده اليوم ليس مجرد تطور تقنى، بل تحول ثقافى ومعرفى خطير.. فحين يصبح البحث سلعة تشترى وتباع وحين تقاس كفاءة الأستاذ بعدد الأبحاث المنشورة دون النظر إلى جوهرها ومصدرها، فإننا أمام أزمة ضمير علمى وأخلاقى تهدد أساسات التعليم العالى.. رسالة التعليم العالى فى مأزق إن رسالة الجامعة لم تكن يوماً مجرد منح شهادات أو ترقيات أكاديمية، بل هى بناء العقل المفكر الحر الذى يسهم فى تنمية وطنه.. ولكن كيف نحقق ذلك إذا كانت أدوات التقييم لا تواكب عصر الذكاء الاصطناعي؟!.. كيف نحافظ على روح الاجتهاد إذا كان الطريق الأسهل متاحاً عبر برامج قادرة على توليد الأفكار والبحوث دون جهد أو بحث حقيقي؟!
الخوف على الطلبة المجتهدين
قال لى صديقى الأستاذ الجامعى المرموق محذراً بمرارة: سنرى فى المستقبل أساتذة لا يليق أن يقوموا بالتدريس خوفاً على الطلبة المجتهدين الباحثين عن العلم والمعرفة.. وهى عبارة تختصر جوهر المأساة، لأن الخطر لا يهدد فقط مصداقية البحث العلمى، بل يمتد ليصيب العملية التعليمية ذاتها فى مقتل.
دعوة لإعادة النظر
لم يعد مقبولاً أن تبقى قواعد الترقيات الأكاديمية حبيسة لوائح وقرارات وضعت فى زمن لم يكن فيه الذكاء الاصطناعى سوى خيال علمى.. اليوم، نحن بحاجة إلى منظومة تقييم جديدة تضع الإبداع والمصداقية فى المقدمة، وتمنح الأولوية للتأثير العلمى والمجتمعى لا لمجرد الكمّ الورقى المنشور.. بكل تأكيد التعليم العالى ليس مجرد مؤسسة لإنتاج الشهادات، بل هو ضمير الأمة وعقلها المفكر.. وإن لم نتحرك بوعى وشجاعة لإصلاح مساره فى زمن الذكاء الاصطناعى، فسنجد أنفسنا أمام أجيال من حملة الألقاب بلا علم، وأساتذة بلا رسالة، وجامعات بلا روح.









