الحياة بلا أمل موت، يبدو الأمر غريبا… أن تجتمع الحياة والموت فى جملة واحدة لا يفصل بينهما سوى ستة أحرف، ولكنها الحقيقة: الحياة والموت يجتمعان فى إنسان يائس. ولم يكن هو من هذا النوع، كان التفاؤل جزءا من تكوينه حتى فى أصعب اللحظات، كان الأمل متغلغلا فى نسيج مشاعره، كان يملك قدرة غريبة على إضفاء أجواء البهجة فى كل مكان يتواجد فيه، فالحياة حلوة لمن يعرف كيف يعيشها، والأزمات الحياتية مجرد امتحان يستطيع من يملك الإرادة أن يحصل فيه على الدرجات الكاملة.
كان كما هو عندما زرته فى القسم العلاجى الذى يكفى الدخول إليه لإطلاق كل مشاعر اليأس، وجهه الشاحب لم يخف ابتسامته المشرقة، أشار إلى غطاء الرأس الذى يخفى به الصلع الشامل الذى اجتاحها بعنف بسبب الدواء وجلسات الأشعة، قال ضاحكا: خطيبتى سوف تزورنى بعد قليل، وأخشى أن تغير رأيها وتطلب فسخ الخطبة عندما تكتشف التصحر الذى أصاب رأسي، الأطباء اخبرونى أن شعرى سيعود بعد الشفاء والتوقف عن تناول الدواء الكيماوي، إذا لم يحدث ذلك ستكون مشكلة كبيرة، هل لديك استعداد للتبرع لى بجزء من شعرك. ضحك وبكيت فى صمت
كنت أعرف حالته، البداية كانت أعراضا بسيطة، انسدادا فى الأنف، ربما رشح أو نزلة برد، صداع خفيف، توجه إلى أحد الأطباء، طلب إخضاعه لفحص باستخدام المنظار، ضحك ووافق، ضحك لأنه تصور أن الأمر أبسط من ذلك بكثير، وأن الدكتور يحاول فقط زيادة قيمة فاتورة الأتعاب، ووافق لان الحال «ميسورة» ومن حق الطبيب أن يكسب. وتوالت الأحداث المخيفة بسرعة، عينة من أنسجة الجيوب الأنفية، فحوص دم… ما كل هذا؟.. هل يستحق انسداد الأنف كل هذه الفحوص، فليبقى مسدودا. النتائج تؤكد إصابته بورم خطير فى الجيوب الأنفية، ليس له علاج جراحي، لا يمكن استئصاله، ورم خبيث جدا، لابد من إدخاله فورا إلى معهد الأورام. أذكر يومها انه تلقى الخبر بهدوء يتجاوز قدرات البشر، واكتفى بتعليق ساخر أثار الضحك، قال: ليت انفى كان بلا «جيوب»، فقد عانيت طويلا من الجيوب الخاوية المفلسة، وعندما انتفخت جيوب ملابسى تورمت معها جيوب انفي.
كان يعرف أن حالته خطيرة، كان العلاج مؤلما، بل أكثر إيلاما من المرض نفسه، انهارت صحته، تساقط شعره، حرمه الغثيان المؤلم من تناول أى طعام، وأبدا لم يتخل عن الأمل. كان مؤمنا بأن قدرة الله تفوق تدبير البشر، كان عندما يفيق من نوبات الإعياء الشديد بعد تناول الدواء، يتحدث عن ترتيبات الزواج، عن إنجاب الأبناء الذين يتمناهم بلا جيوب أنفية أو بالقليل منها حتى لا تنتفخ وتتورم.
أجهدتنى زيارته، عذبنى بحديثه دون أن يدري، وعندما هممت بالانصراف واعدا بزيارات أخري، استوقفنى فجأة، سألنى عن تأثير الأدوية الكيميائية على قدراته الإنجابية، قال انه سمع أن الدواء الكيماوى يدمر الخلايا التناسلية وانه قد لا يتمكن من الإنجاب أبدا، قلت له أن هذا الحديث سابق لأوانه، قلت: عليك ألان أن تهتم بصحتك، قلت أن ما يبدوا مستحيلا اليوم سيصبح ممكنا غدا، قبل سنوات كانت غياب الحيوانات المنوية من السائل المنوى للزوج يعنى حرمانا مؤكدا من الإنجاب ليس له علاج، كان علاجه فى وقت من الأوقات مستحيلا، واليوم أصبح من يعانون من هذه المشكلة ينجبون. ابتسم، تحسس غطاء رأسه، قال: خطيبتى قادمة، مازلت وسيما، أليس كذلك؟ وضحك. عجزت عن إخفاء دموعي، قلت له وأنا استعد للانصراف، بل أنت أجمل مما تتصور.