كان ذراع محمد على فى تطوير التعليم.. وبصيرة إسماعيل فى ترسيخ مفاهيم الإصلاح السياسى
مؤسس نهضة مصر الثقافية الحديثة
كان شمعة أضاءت طرق الثقافة والمعرفة.. ونوراً انجلى به ظلام سنوات من الرجعية والسطحية.. فقد حمل رفاعة رافع الطهطاوى النور إلى عموم البلاد لتدخل مصر عصر النهضة والحداثة وتزيح ظلام العصور الوسطي. كان رفاعة معلمًا ومربيًا بالفطرة والسليقة، بدأ حياته شيخًا يتحلق حوله طلبة الأزهر، وأنهى حياته معلمًا للأمة، لا يرى سبيلا لتقدمها إلا من خلال إتاحة العلم لكل الناس لا فرق فيه بين غنى وفقير أو ذكر وأنثي. عندما ذهب الطهطاوى إلى فرنسا إماما للبعثة التى أرسلها محمد على والى مصر الطموح سنة 1826م لتلقى العلوم الحديثة، لم يكتف بوظيفته التى كلف بها، بل سعى من أول لحظة إلى الوقوف، على حضارة الغرب وثقافته، وبدأ فى تعلم الفرنسية وهو على ظهر السفينة التى تقل البعثة إلى باريس.
وبالفعل تمسك رفاعة الطهطاوى بالفرصة، وهو الشغوف بالمعرفة، المحب للإصلاح، الراغب فى الجديد، الداعى إلى الإحياء والتجديد، فانكب على الدرس والتحصيل والقراءة والترجمة، وتحول الإمام الفقيه إلى دارس يتعلم ويبحث، وغدا إمام البعثة أنجب المبعوثين، ولما رجع إلى الوطن أدرك ما يحتاجه البعث والنهوض فتبنى حركة الترجمة المنظمة، وأنشأ مدرسة الألسن، وبعث حياة جديدة فى التعليم والصحافة.
سيرة رفاعة رافع الطهطاوى الذى نحتفل فى 27 مايو بذكرى رحيله، أطول من العمر، حيث رحل عن عالمنا فى هذا اليوم عام 1873م تاركاً انجازات كبيرة ومعارف بالجملة وآثاراً من فكر وعلم كثير.. رفاعة بعث فينا أرواحاً متعددة وأفكاراً متجددة، وما أحوجنا اليوم للبناء على نموذجه لسد الفجوة القيمية وصناعة الجسر بين الأصالة والحداثة.. وكلاً من كتاب جمال الدين الشيال: «رفاعة رافع الطهطاوي» الصادر عن دار المعارف 1970م، وكتاب «رفاعة الطهطاوي.. رائد فكر وإمام نهضة» لمؤلفه حسين فوزى النجار الذى صدر عن الدار المصرية للتأليف والترجمة، يعطينا نظرة فاحصة على رفاعة الطهطاوى من النشأة إلى الريادة.
النشأة.. والبدايات الفكرية
فى مدينة طهطا إحدى مدن محافظة سوهاج بصعيد مصر، ولد رفاعة رافع الطهطاوى فى (15 أكتوبر 1801م)، ونشأ فى شريفة النسب، فأبوه ينتهى نسبه إلى الحسين بن على بن أبى طالب. وأمه فاطمة بنت الشيخ أحمد الفرغلي، ينتهى نسبها إلى قبيلة الخزرج الأنصارية.
لقى رفاعة عناية كبيرة من أبيه، على الرغم من تنقله بين عدة بلاد فى صعيد مصر، فحفظ القرآن الكريم، ثم رجع إلى موطنه طهطا بعد أن توفى والده، ووجد من أسرة أخواله اهتماماً كبيراً حيث كانت زاخرة بالشيوخ والعلماء فحفظ على أيديهم المتون التى كانت متداولة فى هذا العصر، وقرأ عليهم شيئا من الفقه والنحو.
وفى السادسة عشرة من عمره التحق بالأزهر وذلك فى سنة (1817م)، متسلحا بما تعلمه على يد أخواله، الأمر الذى ساعده على مواصلة الدراسة مع زملائه الذين سبقوه، وشملت دراسته فى الأزهر الحديث والفقه والتصوف والتفسير والنحو والصرف.. وغير ذلك، وتتلمذ على يد عدد من علماء الأزهر العظام، وكان من بينهم من تولى مشيخة الجامع الأزهر، مثل الشيخ حسن القويسني، وإبراهيم البيجوري، وحسن العطار، وكان هذا الأخير ممن وثق الطهطاوى صلته بهم ولازمهم وتأثر بهم، وتميز الشيخ العطار عن أقرانه من علماء عصره بالنظر فى العلوم الأخرى غير الشرعية واللغوية، كالتاريخ والجغرافيا والطب، واستفاد من رحلاته الكثيرة واتصاله بعلماء الحملة الفرنسية.
وبعد مرور 6 سنوات جلس رفاعة للتدريس في الازهر، وهو فى الحادية والعشرين من عمره، والتف حوله الطلبة يتلقون عنه علوم المنطق والحديث والبلاغة والعروض، وكانت له طريقة آسرة فى الشرح جعلت الطلبة يتعلقون به ويقبلون على درسه، ثم ترك التدريس بعد عامين والتحق بالجيش المصرى النظامى الذى أنشأه محمد على إماما وواعظا لإحدى فرقه، واستفاد من هذه الفترة الدقة والنظام.
عضو البعثة العلمية إلى باريس
بدأ رفاعة الطهطاوى رحلة جديدة ومختلفة فى حياته، ففى سنة (1826م) قررت الحكومة المصرية إيفاد بعثة علمية كبيرة إلى فرنسا لدراسة العلوم والمعارف الإنسانية، فى الإدارة والهندسة الحربية، والكيمياء، والطب البشرى والبيطري، وعلوم البحرية، والزراعة والعمارة والمعادن والتاريخ الطبيعي. وبالإضافة إلى هذه التخصصات يدرسون جميعا اللغة والحساب والرسم والتاريخ والجغرافيا.. وتنوع تخصصات هذه البعثة يشير إلى عزم محمد على النهوض بمصر والدفع بها إلى مصاف الدول المتقدمة، والوقوف على الحضارة الأوروبية الحديثة.
وحرصاً على أعضاء البعثة من الذوبان فى المجتمع الغربى قرر محمد على أن يصحبهم ثلاثة من علماء الأزهر الشريف لإمامتهم فى الصلاة ووعظهم وإرشادهم. وكان رفاعة الطهطاوى واحدا من هؤلاء الثلاثة، ورشحه لذلك شيخه حسن العطار.
مع بداية الرحلة وهو فى المركب بدأ الطهطاوى فى تعلم الفرنسية فى جدية ظاهرة، وكأنه يعد نفسه ليكون ضمن أعضاء البعثة لا واعظها وإمامها فحسب، ثم استكمل تعلم الفرنسية بعدما نزلت البعثة باريس؛ حيث استأجر لنفسه معلما خاصًا يعطيه دروسًا فى الفرنسية نظير بضعة فرنكات كان يستقطعها من مصروفه الشخصى الذى كانت تقدمه له إدارة البعثة، وأخذ يشترى كتبًا خاصة إضافية غير مدرجة فى البرنامج الدراسي، وانهمك فى قراءتها، ومن شدة حرصه على مداومة القراءة والدرس تأثرت عينه اليسري، ونصحه الطبيب بعدم الاطلاع ليلاً، لكنه لم يستجب لنصحه، واستمر فى إشباع نهمه للمعرفة.
وأمام هذه الرغبة الجامحة فى التعلم قررت الحكومة المصرية ضم رفاعة إلى بعثتها التعليمية، وأن يتخصص فى الترجمة؛ لتفوقه على زملائه فى اللغة العربية والثقافة الأزهرية، وقد لقى الفتى النابه عناية ظاهرة من العالم الفرنسى جومار الذى عهد إليه محمد على بالإشراف العلمى على البعثة، ومن المستشرق الفرنسى الكبير دى ساسي، واجتاز كل الامتحانات التى عقدت له بنجاح باهر، وكانت التقارير التى ترسل إلى محمد على تتابع أخبار البعثة تخص رفاعة بالثناء والتقدير.
وقبل الامتحان النهائى كان قد أنجز ترجمة اثنى عشر عملاً إلى العربية فى التاريخ والجغرافيا والهندسة والصحة، بالإضافة إلى مخطوطة كتابه «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز» وهو الكتاب الذى ارتبط اسمه به، ووصف فيه الحياة فى باريس وعادات أهلها وأخلاقهم، وهو ليس وصفًا لرحلة أو تعريفًا لأمة بقدر ما هو دعوة للارتقاء، وصرخة للبعث والنهوض.
العودة إلى الوطن
قبل عودة البعثة إلى مصر عام 1831م سبقت رفاعة تقارير أساتذته التى تشيد بنبوغه وذكائه، وكان إبراهيم باشا ابن محمد على أول من استقبله من الأمراء فى الإسكندرية، ثم حظى بمقابلة الوالى محمد علي، لتبدأ أولى الوظائف التى تولاها الطهطاوى بعد عودته العمل مترجمًا فى مدرسة الطب، وكان أول مصرى يشغل هذه الوظيفة، ومكث بها عامين، ترجم خلالهما بعض الرسائل الطبية الصغيرة، وراجع ترجمة بعض الكتب، ثم نقل سنة 1833م إلى مدرسة الطوبجية (المدفعية) لكى يعمل مترجمًا للعلوم الهندسية والفنون العسكرية.
ولما اجتاح وباء الطاعون القاهرة سنة 1834م، غادرها إلى طهطا، ومكث هناك ستة أشهر، ترجم فى شهرين مجلدًا من كتاب بلطبرون فى الجغرافيا، وعندما عاد إلى القاهرة قدم ترجمته إلى محمد علي، فكافأه مكافأة مالية.
مدرسة الألسن.. أهم الإنجازات
كان رفاعة الطهطاوى يأمل فى إنشاء مدرسة عليا لتعليم اللغات الأجنبية، وإعداد طبقة من المترجمين المجيدين يقومون بترجمة ما تنتفع به الدولة من كتب الغرب، وتقدم باقتراحه إلى محمد على ونجح فى إقناعه بإنشاء مدرسة للمترجمين عرفت بمدرسة الألسن، مدة الدراسة بها خمس سنوات، قد تزداد إلى ست، وافتتحت المدرسة بالقاهرة سنة 1835م، وتولى رفاعة نظارتها، وكانت تضم فصولاً لتدريس اللغة الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والتركية والفارسية، إلى جانب الهندسة والجبر والتاريخ والجغرافيا والشريعة الإسلامية.
وبذل رفاعة جهدًا عظيمًا فى إدارة المدرسة، وكان يعمل فيها عمل أصحاب الرسالات ولا يتقيد بالمواعيد المحددة للدراسة، وربما استمر فى درسه ثلاث ساعات أو أربعا دون توقف واقفًا على قدميه دون ملل أو تعب يشرح لهم الأدب والشرائع الإسلامية والعلوم الغربية، وقد تخرجت الدفعة الأولى فى المدرسة سنة 1839م وكان عددها عشرين خريجًا، وكانت مترجمات هؤلاء الخريجين قد طبعت أو فى طريقها إلى الطبع.
اتسعت مدرسة الألسن، فضمت قسمًا لدراسة الإدارة الملكية العمومية سنة (1844م)، لإعداد الموظفين اللازمين للعمل بالإدارة الحكومية، وقسمًا آخر لدراسة الإدارة الزراعية الخصوصية بعد ذلك بعامين، كما ضمت قسمًا أنشئ سنة 1847م لدراسة الشريعة الإسلامية على مذهب أبى حنيفة النعمان لإعداد القضاة، وأصبحت بذلك مدرسة الألسن أشبه ما تكون بجامعة تضم كليات الآداب والحقوق والتجارة، وكان رفاعة الطهطاوى يقوم إلى جانب إدارته الفنية للمدرسة باختيار الكتب التى يترجمها تلاميذ المدرسة، ومراجعتها وإصلاح ترجمتها.
والشاهد هنا ان شخصية أسطورية مثل الطهطاوى فى حاجة إلى حاكم أسطورى مثل محمد على لتستيقظ أسطورة مصر وتصبح من أكبر القوى السياسية والعسكرية.
رحلة جديدة إلى السودان
ظلت المدرسة خمسة عشر عامًا، كانت خلالها مشعلاً للعلم، ومنارة للمعرفة، ومكانًا لالتقاء الثقافتين العربية والغربية، إلى أن عصفت بها يد الحاكم الجديد عباس الأول، فقام بإغلاقها لعدم رضاه عن سياسة جده محمد على وعمه إبراهيم باشا وذلك فى سنة 1849م، كما أمر بإرسال رفاعة إلى السودان بحجة توليه نظارة مدرسة ابتدائية يقوم بإنشائها هناك، فتلقى رفاعة الأمر بجلد وصبر، وذهب إلى هناك، وظل هناك فترة دون عمل استغلها فى ترجمة رواية فرنسية شهيرة بعنوان «مغامرات تلماك»، ثم قام بإنشاء المدرسة الابتدائية، وكان عدد المنتظمين بها نحو أربعين تلميذًا، ولم يستنكف المربى الكبير أن يدير هذه المدرسة الصغيرة، ويتعهد نجباءها برعاية خاصة.
أول مشروع لإحياء التراث
وبعد وفاة عباس الأول سنة 1854م عاد الطهطاوى إلى القاهرة، وأسندت إليه فى عهد الوالى الجديد «سعيد باشا» عدة مناصب تربوية، فتولى نظارة المدرسة الحربية التى أنشأها سعيد لتخريج ضباط أركان حرب الجيش سنة 1856م، وقد عنى بها الطهطاوى عناية خاصة، وجعل دراسة اللغة العربية بها إجبارية على جميع الطلبة، وأعطى لهم حرية اختيار احدى اللغتين الشرقيتين: التركية أو الفارسية، وإحدى اللغات الأوربية: الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية، ثم أنشأ بها فرقة خاصة لدراسة المحاسبة، وقلمًا للترجمة برئاسة تلميذه وكاتب سيرته صالح مجدي، وأصبحت المدرسة الحربية قريبة الشبه بما كانت عليه مدرسة الألسن.
ولم يكتف رفاعة بهذه الأعمال العظيمة، فسعى إلى إنجاز أول مشروع لإحياء التراث العربى الإسلامي، ونجح فى إقناع الحكومة بطبع عدة كتب من عيون التراث العربى على نفقتها، مثل تفسير القرآن للفخر الرازى المعروف بمفاتيح الغيب، ومعاهد التنصيص على شواهد التلخيص فى البلاغة، وخزانة الأدب للبغدادي، ومقامات الحريري، وغير ذلك من الكتب التى كانت نادرة الوجود فى ذلك الوقت.
وقد وصف صالح مجدى أستاذه الطهطاوى بأنه قليل النوم كثير العمل فى التأليف والتراجم، حتى إنه لم يكن يعتنى بملابسه مثل كل المبدعين الذين ينشغلون بما هو أهم.
الخديوى إسماعيل.. والعودة من جديد
غير أن هذا النشاط الدءوب تعرض للتوقف سنة 1861م حيث خرج رفاعة من الخدمة، وألغيت مدرسة أركان الحرب، وظل عاطلاً عن العمل حتى تولى الخديوى إسماعيل الحكم سنة 1863م، فعاد رفاعة إلى ما كان عليه من عمل ونشاط على الرغم من تقدمه فى السن، واقتحم مجالات التربية والتعليم بروح وثابة يحاول أن يأخذ بيد أمته إلى مدارج الرقى والتقدم، فأشرف على تدريس اللغة العربية بالمدارس، واختيار مدرسيها وتوجيههم، والكتب الدراسية المقررة، ورئاسة كثير من لجان امتحانات المدارس الأجنبية والمصرية..ومن أبرز الأعمال التى قام بها رفاعة فى عهد الخديو إسماعيل نظارته لقلم الترجمة الذى أنشئ سنة (1863م) لترجمة القوانين الفرنسية، ولم يكن هناك من أساطين المترجمين سوى تلاميذ الطهطاوى من خريجى مدرسة الألسن، فاستعان بهم فى قلم الترجمة، ومن هؤلاء: عبد الله السيد وصالح مجدى ومحمد قدري.
وكان مقر قلم الترجمة حجرة واحدة بديوان المدارس، ولم يحل ذلك دون إنجاز أعظم الأعمال، فترجموا القانون الفرنسى فى عدة مجلدات وطبع فى مطبعة بولاق، ولم تكن هذه المهمة يسيرة، إذ كانت تتطلب إلمامًا واسعًا بالقوانين الفرنسية وبأحكام الشريعة الإسلامية، لاختيار المصطلحات الفقهية المطابقة لمثيلاتها فى القانون الفرنسي.
أول صحفى مصري.. أشرف على جريدة «الوقائع المصرية» وأنشأ مجلة «روضة المدارس»
كان رفاعة الطهطاوى أول صحفى مصرى فى العصر الحديث، فعندما كلفه محمد على بالإشراف على جريدة الوقائع التى صدرت فى عام 1828م جعلها جريدة عصرية، أدخل عليها المقال السياسي، وأصبحت تصدر أسبوعيا، وجعل لها مندوبين فى الدواوين الحكومية لجمع الأخبار، وأصبح لها تبويب صحفى ثابت كما اهتمت بنشر الشعر لأول مرة.
وبعدما جاء الخديو إسماعيل عهد إلى الطهطاوى بإصدار مجلة روضة المدارس، سنة 1870م جعل منها منارة لتعليم الأمة ونشر الثقافة بين أبنائها، فقد نظمها أقسامًا، وجعل على رأس كل قسم واحدًا من كبار العلماء من أمثال عبدالله فكرى الاديب الكبير، وإسماعيل الفلكى العالم الرياضى والفلكي، ومحمد باشا قدرى القانونى الضليع، وصالح مجدي، والشيخ حسونة النواوى الفقيه الحنفى المعروف، وغيرهم. وكانت المجلة تنشر مقالات تاريخية وجغرافية واجتماعية وصحية وأدبية وقصصا وأشعارا، كما كانت تنشر ملخصًا لكثير من الدروس التى كانت تلقى بمدرسة «دار العلوم».
واعتادت المجلة أن تلحق بأعدادها كتبًا ألفت لها على أجزاء توزع مع كل عدد من أعدادها بحيث تكون فى النهاية كتابًا مستقلاً، فنشرت كتاب «ثار الأفكار ومنثور الأزهار» لعبدالله فكري، و«حقائق الأخبار فى أوصاف البحار» لعلى مبارك، و«الصحة التامة والمنحة العامة» للدكتور محمد بدر، و«القول السديد فى الاجتهاد والتجديد» للطهطاوي..وكان رفاعة قد نيف على السبعين حين ولى أمر مجلة الروضة، لكنه ظل مشتعل الذكاء وقاد الفكر، لم تنل الشيخوخة من عزيمته، فظل يكتب فيها مباحث ومقالات حتى توفى فى (27 من مايو 1873م).
كما كانت له مؤلفات كثيرة متنوعة، من العلوم الطبيعية إلى السياسة والفكر، خصوصاً فى ما يتعلق بأنظمة الحكم، وغيرها من المسائل التى تأثر بها، تماماً كما حدث مع محمد عبده بعد ذلك، ففكره الأساسى انصب على التوفيق بين هذه المفاهيم الحديثة للحكم والتراث الإسلامي، فلم يسعَ لإنكار ضرورتها، ولكنه سعى لإيجاد أصول وجذور لها فى التاريخ والشريعة الإسلامية يمكن البناء عليها، بل إنه ترجم مفاهيم سياسية على أساسيات تفسيرية لمفاهيم إسلامية، فالحرية عنده تعادل فى الشريعة مفهوم العدل والمساواة، منادياً بأخذ المفاهيم التى تناسبنا وتجسيدها على خلفية الأصالة. ومن هذا المنطلق أيضاً، فإنه يمكن اعتبار الطهطاوى فى حقيقة الأمر أول من نادى بشكل عصرى لمسألة تحرير المرأة، قبل محمد عبده وقاسم أمين بعقود، ولم يستبعد دوراً للمرأة فى قيادة الدولة المصرية، وبالتالى يمكن اعتبار دور هذا الرجل مبنياً على جملته الشهيرة «لابد لعمل الشرع مع العقل».
لا خلاف على أن عظمة الطهطاوى وآثاره متعددة، لا مجال لحصرها هنا، وأنه يعد بالفعل المؤسس لحركة التنوير والإصلاح التى استند إليها من أتوا بعده، مستغلاً رؤية مستنيرة وعيناً فاحصة انتقائية للتحديث. وتقديرى أن أهم إنجازاته كانت اهتمامه بالترجمة، كأداة لنقل التمدن، وباعتبارها الجسر الأول لأى تقدم، سواء فى زمنه أو اليوم.
الإنتاج الفكرى والعلمى
رغم كثرة المسئوليات التى تحملها رفاعة وأخذت من وقته الكثير، فإنه لم ينقطع عن الترجمة والتأليف فيما يعود بالنفع على الأمة، ولم يقض وقته إلا فيما فيه فائدة، وقد بدأ رفاعة إنتاجه الفكرى والعلمى منذ أن كان مبعوثًا فى فرنسا، ومن أهم كتبه:
ــ مناهج الألباب المصرية فى مباهج الآداب العصرية.
ــ المرشد الأمين فى تربية البنات والبنين.
ــ أنوار توفيق الجليل فى أخبار مصر وتوثيق بنى إسماعيل.
ــ نهاية الإيجاز فى سيرة ساكن الحجاز، وهو آخر كتاب ألفه الطهطاوي، وسلك فيه مسلكا جديدا فى تأليف السيرة النبوية تبعه فيه المحدثون.
أما الكتب التى قام بترجمتها فهى تزيد عن خمسة وعشرين كتابًا، وذلك غير ما أشرف عليه من الترجمات وما راجعه وصححه.
ومن أعظم ما قدمه الرجل تلاميذه النوابغ الذين حملوا مصر فى نهضتها الحديثة، وقدموا للأمة أكثر من ألفى كتاب خلال أقل من أربعين عامًا، ما بين مؤلف ومترجم.
وأفضل وصف لـ رفاعة جاء فى بيت لأحمد شوقى رثى فيه على بن رفاعة الابن الأصغر للطهطاوي، وكان من نوابغ الحياة الفكرية فى مصر:
يا ابن الذى أيقظت مصرَ معارفُهُ
أبوك كان لأبناء البلاد أبـا