لم تكن الحرب الإسرائيلية على غزة، مثل سابقاتها، مجرد جولة عسكرية تتصاعد ثم تخبو، لقد كانت، وبحق، الزلزال الذى هزّ أركان «الرواية الإسرائيلية» التى شُيّدت بعناية فائقة على مدى أكثر من سبعة عقود، رواية «الدولة-الضحية»، «الشعب المختار» المحاصر بالهمجية، والكيان الذى «يدافع عن وجوده» فى محيط يتربص به.
لم يعد العالم يرى الصراع بالعين القديمة نفسها، الصورة التى كانت تختزل المسألة فى «دفاع إسرائيل عن نفسها»، تبددت تحت سيل من صور البيوت المهدمة والأطفال المقطعين، والغبار الذى يبتلع الحكايات.. لأول مرة، لم تعد القصة تُروى من تل أبيب أو واشنطن، بل من الأزقة المدمرة، من تحت الركام، من فم امرأة تبحث عن ابنها، أو أطفال يموتون من شدة الجوع.
وهنا حدث التحول العميق: لم تعد إسرائيل رمزا للنجاة، بل نموذج للقوة المفرطة التى فقدت البوصلة الأخلاقية، تغير المعنى، وتحول الوعى.
لقد انهارت الرواية القديمة تحت وطأة القنابل التى لم تميز بين طفل ومسن، بين مستشفى وملجأ، ليكتب من تحت الركام فصل جديد من فصول الصراع، حاملاً فى طياته نهاية أسطورة وبداية أخرى.
لطالما استخدمت إسرائيل تراكمات الماضي؛ لتبرير أى فعل عدوانى تقوم به، لكن شاشات العالم، التى التقطت صور الأطفال المشوّهين تحت أنقاض منازلهم، والأمهات تحمل أطفالها فى أكفان من البلاستيك، والأطباء وهم يجرون عمليات بتر دون بنج، قامت بعملية قلب مفاهيمية جذرية.
يقول المؤرخ الإسرائيلى «إيلان بابى» فى كتابه «التطهير العرقى لفلسطين»: «إن الرواية الصهيونية السائدة بنيت على إنكار وجود الفلسطينيين وتجريدهم من إنسانيتهم، ما يحدث فى غزة هو ذروة هذا المنطق، لكنه أيضاً كشف عورته للعالم»، لقد انتقلت صورة إسرائيل فى الإعلام والرأى العام العالمى، خاصة بين جيل الشباب، من دولة تواجه «الإرهاب» إلى دولة تمارس «إرهاب دولة منظماً» لم تعد «الضحية» بل أصبحت «الجلاّد» الذى لا يرحم.. لقد كشفت هذه الحرب أيضاً انهيار أسطورة «أنقى جيش فى العالم» والتى روّجت لها الآلة الدعائية الإسرائيلية، فقد جاء استهداف «المستشفيات، المدارس، مراكز الأمم المتحدة، وقتل أعداد غير مسبوقة من الصحفيين والعاملين فى الإغاثة»، لتفضح زيف الادعاءات الأخلاقية. لم يعد «الدفاع عن النفس» مقنعاً عندما يتحول إلى عقاب جماعى وإبادة بطيئة لشعب محاصر.
وهذا ما يؤكده المفكر الأمريكى «نعوم تشومسكى» بقوله: «إن معايير القانون الدولى والإنسانى واضحة، ما تقوم به إسرائيل فى غزة هو نموذج صارخ لجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية».
إذا كانت السردية الإسرائيلية القديمة تُكتب من مكاتب المخططين ومنابر الإعلام الغربى المسيطر، فإن السردية الجديدة تولد من تحت الركام، تخرج الحكاية الحقيقية من بين الحطام. إنها رواية تكتبها الأم الثكلى بدم أطفالها،هذه الرواية لم تعد تحتاج إلى مؤرخين أو محللين كى ترويها. لقد حوّلت وسائل التواصل الاجتماعى كل مواطن فى غزة إلى راوٍ وشاهد.
لقد أحدثت تلك الحرب شرخاً عميقاً فى العلاقات الدولية، فضحت ازدواجية المعايير الغربية، خاصة الأمريكية، التى تمنح الغطاء السياسى والعسكرى لإسرائيل بينما ترفع شعارات حقوق الإنسان.
إن غزة، التى حاولت إسرائيل اختزالها فى رقم عسكرى، عادت لتثبت أنها فكرة، والفكرة لا تقتل بالصواريخ، لكنها أطلقت من بين تلك الأنقاض سردية جديدة، أكثر قوة وصدقاً وإنسانية تقول: «كفى». لقد انتهى زمن الضحية التى تنتظر التعاطف، وبدأ زمن الشعب الذى يروى قصة كفاحه بدمائه، ويصر على حقه فى الحياة والحرية والكرامة.









