مع كل حرب إسرائيلية على غزة بمجرد نجاح مصر فى إيقاف إطلاق النار ينتهى دور كل الأطراف، إلا مصر نفسها التي لا ينتهى دورها أبدًا، بل يظل مستمرًا ومهمًا من أجل أن تحافظ على الهدوء والاستقرار وبقاء القضية الفلسطينية في بؤرة الاهتمام.
في كل مرة تخرج غزة من الحرب تدعو مصر الفصائل الفلسطينية سريعاً ليجتمعوا في القاهرة على أمل تحقيق التوافق الوطني الفلسطيني وأن يكونوا صوتا واحدا تحت راية واحدة دفاعاً عن قضيتهم، وتصدر التعهدات من الجميع بتغليب المصلحة العليا للوطن لكن سرعان ما تدب الخلافات ويعود كل فصيل إلى مربعه المتشبت به بحثا عن مكاسبه الخاصة حتى ولو على حساب فلسطين نفسها وشعبها.
خلال الأيام الماضية وعقب بدء تنفيذ وقف الحرب جاءت الفصائل إلى القاهرة بدعوة من القيادة المصرية ليجتمعوا ويتباحثوا حول التوافق على خطة ترامب والمرحلة الثانية من الاتفاق.
وفرت المخابرات المصرية الحريصة على المصلحة الفلسطينية كل الظروف التي تساعد الفصائل على حوار وطني هادئ وصادق وناجح، ودعما لهذا الهدف التقى السيد رئيس المخابرات قيادات الفصائل ليضعهم أمام الواقع الحقيقي بكل أمانة ويكشف خطورة الفرصة المتاحة حاليا وأنها لا تحتمل سوى توحيد الصف وعقب انتهاء الاجتماعات خرج بيان باسم الفصائل تضمن نقاطاً مبشرة وغاية في الأهمية تشير إلى أن هناك رغبة حقيقية لدى الجميع في التصالح والتماسك وإغلاق صفحات الماضي، وأكدت الفصائل مجتمعة أن الوقت من دم وأن المرحلة الحالية مصيرية ويجب أن يكون اجتماع القاهرة نقطة فاصلة في طريق التوحد الوطني الفلسطيني.
وأشار البيان صراحة إلى ضرورة تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية واعتبارها الممثل الشرعي الوحيد لفلسطين وأن تضم كافة الفصائل.
كلام فى منتهى الأهمية، وعنوان مطلوب جدا المرحلة بالفعل فاصلة وحاسمة في تاريخ القضية ورغم تخوف البعض من أن يكون هذا البيان مثل ما سبقه من بيانات وينتهى بالانقسام، إلا أنني لا أريد أن أذهب إلى هذا الاتجاه، بل أتمسك بأن بيان الفصائل هذه المرة مختلف لغة وجوهرا، وأن هناك رغبة فعلية من الجميع في الالتزام بما تعهدوا به والتمسك بالمشترك بينهم ومرجعي في هذا عدة أسباب:
- أولها: الدرس القاسي الذي تعرض له كل الفلسطينيين خلال العامين الماضيين منذ إندلاع الحرب، وكشف بوضوح أنه لا سبيل أمام كل الفصائل إلا التوحد ونبذ الفرقة لأن الشعب الفلسطيني نفسه لم يعد يقبل أو يطيق هذا الانقسام الذي يضر بقضيتهم كثيرا. والأرجح أن الفصائل استوعبت هذا الدرس جيدا وأدركوا أنهم عليهم قراءة المشهد جيداً، لأنه مهما كانت قوة أي فصيل فهو في النهاية بمفرده يمثل هدفا ضعيفا للاحتلال، وما حدث لقادة حماس الذين تم اغتيالهم داخل أو خارج فلسطين كان رسالة مهمة يجب الانتباه إليها جيدا مثلما يجب استيعاب حالة الضعف التي طالت الحركة وبنيتها وقدراتها، فهى رسالة واضحة وصريحة بخطورة التشرذم وكارثية الانخداع بغرور القوة.
- الأمر الثاني: إنه بعد عامين من الحرب الإسرائيلية على غزة والجهد الكبير الذي بذله الوسطاء لوقف الحرب أصبحت هناك متغيرات إقليمية ودولية فرضت نفسها على الجميع وجعلت كل العواصم الداعمة لأي فصيل ملزمة بأن تراجع أوراقها جيدا وتحسبها ألف مرة قبل أن تواصل دعمها، بل المؤكد أن هذه العواصم ستفرض شروطاً لأى دعم تقدمه، وأول هذه الشروط التزام الفصيل الذي تدعمه بما تم الاتفاق عليه في شرم الشيخ لأن الاتفاق هذه المرة دولي، وأى خروج عليه سيمثل أزمة كبيرة.
- الثالث: إن التحديات الفلسطينية الداخلية أصبحت صعبة هي الأخرى فلم يعد هناك فصيل يمتلك أغلبية أو سطوة أو قادر على فرض الرعب على الفلسطينيين وخاصة في قطاع غزة، فالشعب الذي واجه هذا العدوان الإسرائيلي الوحشى لعامين لن يخشى المواجهة مع أي فصيل يريد أن يفرض وجوده عليه، فهناك تغيرات كبيرة على الأرض الفلسطينية تجعل كل فصيل مطالب فعلا بمراجعة نفسه وإعادة قراءة المشهد الداخلي بشكل أكثر عقلانية وتفهم أنه لم يعد أحد قادر على قمع إرادة الفلسطينيين أو العمل منفردا.
- الرابع: إن مصر وضعت كل هذه الحقائق بصراحة ووضوح أمام ممثلى الفصائل، وأكدت أنهم أمام فرصة قد لا تتكرر لإنقاذ قضيتهم وأن المجتمع الدولي المتعاطف مع فلسطين وحقوق شعبها يمكن أن ينقلب إذا وجد أن الفلسطينيين أنفسهم منقسمون ولا يحافظون على قضيتهم، فالتعاطف العالمي ليس شيكا على بياض، بل هو موقف قابل للتغير وإذا لم ينجح أبناء فلسطين في توحيد صفوفهم. وتقديم صورة حضارية أمام العالم، فسوف يخسرون كثيرا.
كل هذه الأسباب تجعلني أراهن على أن النوايا الآن مختلفة والفصائل تريد فعلا تغير الوضع وإغلاق صفحات الماضى المرير حتى وأن كان البعض منهم مجبرون على ذلك إلا أنهم ليس أمامهم طريق أو اختيار آخر.
لكن رغم كل ذلك فلا مانع من التأكيد مجددا على ضرورة الحفاظ على الاستمرارية في اختيار الوحدة الوطنية الخالصة، دون الاستماع إلى أصوات الفرقة الخبيثة مرة أخري، وأن تتخلى الفصائل هذه المرة عن الأجندات والانتماءات الأخرى غير الفلسطينية سواء كانت انتماءات الجماعة أو الدولة.
فلابد أن يكون الانتماء فقط لفلسطين وأرضها وعلمها. لقد أكد بيان الفصائل أنهم اختاروا إنهاء الانقسام والتوحد تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد، وأعلنت حركة حماس أنها مقبلة على الحوار الوطني بقلب مفتوح وأيد ممدودة، وهذه أرضية مبشرة جدًا ويمكن أن تكون مناسبة المرحلة جديدة ومختلفة من العمل الوطني دفاعاً عن الحق الفلسطيني.
تبقى كلمة.. إن الوسطاء بذلوا كل ما في وسعهم من أجل إنهاء حالة الحرب ومارست مصر دورها التاريخي في الحفاظ على القضية الفلسطينية ووقف كل مخططات التهجير والتصفية، كما واصلت دورها في محاولات لم الشمل الفلسطيني، ليصبح القرار الآن في يد الفلسطينيين أنفسهم، إما أن يحافظوا على دولتهم وإما أن يفرطوا فى الفرصة الأخيرة ووقتها فلا يلومن إلا أنفسهم.









