هى ليست جائزة كبرى يحصل عليها فنان كبير.. هى أكبر من هذا بكثير لأنها تعنى أن ما يبقى من تاريخ المبدع، إلا ما ينفع ويستقر فى وجدان الشعب العربى كله، وليس المصرى فقط.. ولما لا وهو الإسكندرانى الذى جاء يغزو القاهرة ودخل التليفزيون من أوسع أبوابه وأعلن عن نفسه مبكراً بمسلسل «القاهرة والناس» الذى قدم منه أكثر من 84 حلقة، ويعتبر موسوعة مصورة فى أحوال أهل القاهرة فى الستينيات، ولمعت من خلاله أسماء نور الشريف وأشرف عبدالغفور، وكان التصوير يتم بإمكانات متواضعة للغاية، يكفى أن الغلطة الواحدة معناها إعادة الحلقة كلها، حتى لو كانت فى الدقيقة الأخيرة، وفى ديكورات محدودة وأجور لا تغنى ولا تسمن من جوع، ولكن الحماس والموهبة الكبيرة والرغبة فى التميز تعوض كل هذا، ومن اللحظة الأولى التى تخرج فيها محمد فاضل فى زراعة الإسكندرية أو مشتل النجوم، حيث تخرج العشرات ممن لمعوا مع زملاء زراعة القاهرة وقت أن كان المسرح الجامعى فابريكة خرج منها عادل إمام وصلاح السعدنى وسمير غانم ومحمود عبدالعزيز.
وقتها كان رواد ماسبيرو يراهنون على كل موهبة والتليفزيون فى بداياته «انطلق 1960» ويمنحون لهم فرصة التدريب بالخارج فى أكبر الاستديوهات وغالباً ما كانوا يكسبون الرهان، فعلوا ذلك مع سيد مرزوق وعزت العلايلى ورشوان توفيق وكان من حظ «فاضل» سفرية إلى ألمانيا عاد بعدها ليجد سعد لبيب الإعلامى الرائد، يطلب منه مسلسلاً اجتماعياً على غرار ما يقدمه التليفزيون الأمريكى فى عمل مشهور جداً عنوانه «بيتون بليس» فلما وقعت النكسة تغير مسار الحلقات وهو أول مسلسل عبارة عن جريدة درامية لها مجلس تحرير يضم ثنائى التأليف عاصم توفيق ومصطفى كامل، وكل حلقة لها مانشيت أو عنوان حسب موضوعها، وخرجت بصيغة مصرية تماماً، وساعد فاضل على كونها حديث الناس طوال فترة عرضها انها تمس حياتهم وتتناول مشاكلهم وأحلام أجيالهم الكبير منهم والصغير، وكيف لا وهو الذى بدأ مع رفاق الجامعة على المسرح وبروايات ومؤلفات العمالقة فى مصر والعالم.. وقد أخذوا سكة الفن بمنتهى الجدية من اللحظة الأولي، وعندما «فاضل لجائزة النيل » بعد رحلة أعلن فيها عن نفسه كمخرج له بصماته فى المسرح والتليفزيون والسينما، وحتى الإذاعة لابد أن نقول إن الفن الأصيل هو الذى احتفل بجائزة النيل وهو ده اللى فاضل يا أستاذ فاضل رغم غيابك عن جمهورك منذ سنوات.
«وقال البحر»
من مدرسة القاهرة والناس، تخرج محمود ياسين وصلاح قابيل وصفية العمرى وبوسى وليلى طاهر وعفاف شعيب، لكن اللقاء الأكثر أهمية فى نظرى ذلك الذى جمع فاضل مع أسامة أنور عكاشة، وكان قد دخل دنيا الدراما من خلال زميل دراسته فى كلية الآداب فخرالدين صلاح الذى استشهد فى حادث الطائرة المصرية التى كان على متنها العديد من الشخصيات أبرزهم الإعلامية الكبيرة سلوى حجازي.
أسامة بدأ بكتابة القصة والرواية حتى التقى مصادفة مع فخر، وكان وقتها يعمل موظفاً برعاية الشباب بجامعة الأزهر، وطلب منه سباعية تليفزيونية، لكنه اعتذر لأن الكتابة التليفزيونية وقتها لعبة لا تستهوى أدباء الكلمة المكتوبة، لكنه كتب سباعية «الإنسان والحقيقة» ثم توالت أعماله حتى كان اللقاء الذى نقل أسلوب أسامة مع فاضل فى مسلسل «وقال البحر» وكان ضرورياً أن يغير عكاشة وفقاً لطبيعة الموضوع والمخرج الذى يقدمه، ولأن فاضل يعرف جيداً لغة الصورة وتجاربه فى السينما تحقق له الإيقاع المختلف عن السائد فى دراما التليفزيون وحركة الكاميرا والتصوير فى ديكور داخلي، ولا تخرج إلى الشارع والأماكن العامة إلا نادراً.
وإذا كان عكاشة صنع اسمه مع اسماعيل عبدالحافظ «الشهد والدموع» و»ليالى الحلمية»، لكنه مع فاضل قدم روائعه مع فاضل «وقال البحر، عصفور النار، النوة، الراية البيضا» وقد جمعهما إلى جانب التقارب الفكري، حب الإسكندرية.. وطوال رحلة فاضل لم يقبل سوى العمل الذى يقول كلمة وكانت ظروف الانتاج تساعده، فإذا لم يجد ما يرضى طموحه، أنتج لنفسه، وفعلها فى فيلم «أم كلثوم» قبل أن يقدم أجمل الأفلام عن جمال عبدالناصر، وفى ذلك قصة كنت شاهداً عليها، أثناء العرض الأول لفيلم «ناصر 56» فى قصر المؤتمرات كان يجلس بجوارى المخرج السينمائى الكبير أشرف فهمى وكان ينظر إلى كل مخرج تليفزيونى على أنه درجة ثانية، لأن السينما ذاكرة الأمة، لكن المسلسل مثل الجريدة «يوم بيوم» وبعد خمس دقائق من الفيلم التزم الصمت ولم يعقب، فإذا ما انتهى العرض وأضيئت الأنوار وجدته يبكى ويصفق بحرارة، ويصف أداء أحمد زكى بالعبقري، وكذلك إخراج فاضل، رغم كونه هاجم عبدالناصر فى أكثر من فيلم،اً ورفضت أن أطاوعه أثناء كتابة سيناريو «لصوص خمس نجوم» حتى أنه هدد بعدم عمل الفيلم، ثم عاد واحترم رأيى كمؤلف، والده عامل وتعلم فى مدارس ناصر وعهده بالمريلة «تيل نادية».
للتاريخ أقول إن ممدوح الليثى الذى هاجم عبدالناصر أيضا فى «الكرنك» و»ثرثرة على النيل» ساند الفيلم بعد حرق أصوله وأعاد التصوير وكسبنا عملاً خالداً.
ومما يحكى أيضا، أن فاضل جاء فى زيارة لجريدة «الجمهورية» أثناء التحضير للفيلم، ودخل قسم الفن وكان يرأسه الأستاذ صلاح درويش رحمة الله عليه، ولما شاهد زميلنا الناقد والكاتب حامد ابراهيم اختاره ليلعب شخصية فتحى رضوان وزير الثقافة، ولم يكن قد وقف أمام الكاميرا من قبل، لكنها عين فاضل التى تعرف كيف تفتش عن الجواهر مهما كانت مختفية هنا وهناك.
«فاضل» صنع تاريخه بشرف وروح مصرية وطنية خالصة وموهبة رائدة، حتى أصبح مدرسة لكل ما هو جاد ومشرف.