اتفاق شرم الشيخ يمثل بارقة أمل لترسيخ التعايش.. ويؤكد أن السلام الحقيقى يتطلب مواجهة جذور التطرف الفكرية والاجتماعية
فى آسيا يتجلى التطرف فى الإرهاب الدموى لـ «تحريك طالبان باكستان» والتجذّر الطائفى (الإسلاموفوبيا) فى الهند
يشهد العالم اليوم مفارقة أخلاقية صارخة؛ فبينما ترفع بعض الدول شعارات الحرية وحقوق الإنسان، تمارس فى الوقت ذاته أشدّ أشكال القمع ضدّ أصوات العدالة، ولا سيما تلك المدافعة عن فلسطين. تتبدّى هذه الازدواجية فى كل زاوية من المشهد الدولي، من صمت المؤسسات الغربية على الانتهاكات، إلى استخدام مفاهيم الأمن لمصادرة الحقوق، الأمر الذى جعل مرصد الأزهر يطلق تحذيرًا من خطورة هذا الانفصام الأخلاقى الذى يغذّى التطرف ويؤجّج الإسلاموفوبيا حول العالم.
تكشف المواقف المتباينة من القضية الفلسطينية خلال الفترة من 11 حتى 17 أكتوبر 2025 عن أزمة أخلاقية عميقة فى النظام الدولي. فمن جهة، تتصاعد الإجراءات القمعية فى دول غربية تُفاخر بديمقراطيتها، ومن جهة أخري، تبرز دول مثل إسبانيا وبعض الدول العربية فى دعمها السياسى والإنسانى للقضية، ما يطرح تساؤلات حول صدق الالتزام العالمى بمبادئ العدالة والحرية.
يأتى هذا فيما تبنى الكيان الصهيوني، وفقاً لـ «معاريف»، عقيدة أمنية جديدة تقوم على «الردع بالانتقام الشديد»، وتصر على أن جيش الاحتلال هو المسئول الأوحد عن الأمن فى غزة بعد وقف إطلاق النار لمنع إعادة تسليح حماس، وتهدد بتدمير البنية التحتية فوراً دون إذن دولي، رغم عودة نحو نصف مليون فلسطينى لمنازلهم. وفيما يشهد المشهد السياسى الصهيونى صعوداً لحزب الليكود وتأييداً شعبياً واسعاً (82 ٪) لاتفاق السلام، يظل «النصر» الإستراتيجى محل شك، حيث أشار «دافار» إلى محدودية الإنجاز العسكرى فى إنهاء سلطة حماس وتضرر صورة الكيان دولياً. يأتى هذا التناقض بالتوازى مع توقيع اتفاقية مستقبل غزة بين الرئيس ترامب وقادة مصر وتركيا وقطر (فى غياب نتنياهو)، وهى خطوة انتقدها محللون إسرائيليون باعتبارها محاولة لإدارة صراع إقليمى دون حل جذري.
يواجه التضامن الشعبى العالمى مع القضية الفلسطينية حملة «قمع مؤسسي» متصاعدة فى دول غربية، فيما تتخذ دول أخرى كإسبانيا خطوات ملموسة لدعم الحقوق الفلسطينية. هذه المفارقة تضع المجتمع الدولى أمام تحدٍ حقيقى بشأن مصداقية التزاماته بالعدالة وحرية التعبير.
خارطة التطرف فى العالم:
يتسم المشهد العالمى بتصاعد غير مسبوق فى أشكال التطرف المزدوجة التى تضرب الجغرافيا من آسيا إلى أوروبا. أما فى العالم العربي، فيتحول الصراع إلى تطرف إنسانى وجيوسياسى (السودان)، واقتصادى ومؤسسى طائفى (سوريا)، بينما تُواجه أوروبا تهديداً مركباً يتمثل فى عودة الخلايا النائمة (إطلاق سراح 351 مداناً بالإرهاب) وتصاعد «الإرهاب الشبكي» فى الساحل الإفريقى عبر الذكاء الاصطناعى والعملات المشفرة، بالتزامن مع التراخى القانونى تجاه التطرف اليمينى فى ألمانيا.
وفى آسيا، يتجلى التطرف فى الإرهاب الدموى لـ «تحريك طالبان باكستان» والتجذّر الطائفى (الإسلاموفوبيا) فى الهند، ليؤكد أن التطرف تحول إلى شبكة عالمية تستثمر فى التكنولوجيا وتستغل الانقسامات.
فى مواجهة هذه التهديدات المتعددة، يحذر مرصد الأزهر من ازدواجية الخطاب الغربى الذى يقمع التضامن الشعبى (فرنسا وسويسرا) ويخلط بين نقد الكيان الصهيونى ومعاداة السامية، بينما يدعو إلى مقاربة شاملة تتجاوز الردود الأمنية القاصرة. ترتكز هذه الرؤية على نبذ الازدواجية، وضرورة الإصلاح التشريعى (وقف تسليح المتطرفين)، والتوعية الرقمية لمواجهة الإرهاب الشبكي، وإعادة بناء الدولة على أسس المواطنة الكاملة والعدالة (السودان). وفى هذا الإطار، يمثل اتفاق شرم الشيخ، الذى رعته مصر، بارقة أمل لترسيخ التعايش، ليؤكد أن السلام الحقيقى يتطلب فصل الأمن عن العدالة ومواجهة جذور التطرف الفكرية والاجتماعية.
المسلمون والإسلاموفوبيا وخطاب الكراهية
يواجه المسلمون فى الغرب وضعاً متناقضاً: من حيث التصاعد فى الإسلاموفوبيا والتمييز المؤسسى فى سوق العمل والتعليم، يقابله ازدياد فى الحاجة الديموغرافية للاعتراف والاندماج، كما يتضح من تضاعف عدد المساجد فى إسبانيا. هذا التوتر يتفاقم مع استغلال التطرف الرقمى للفراغات الفكرية، ما يتطلب حلاً تشريعياً ومجتمعياً شاملاً.
كما تعانى الجاليات المسلمة من تمييز يومي، يظهر فى الإقصاء من فرص العمل، والنقاشات الساخنة حول الهوية والهجرة، خاصة فى فرنسا التى سجلت ارتفاعاً فى عدد المهاجرين إلى 7.7 مليون شخص.
كذلك يتم استبدال التحليل الأكاديمى للإسلام بتحليلات أيديولوجية، حيث يُستغل الإسلام كـ «أداة فى معارك سياسية»، مما يغذى الاستقطاب ويضع المسلمين فى مرمى خطاب الكراهية.
ففى الولايات المتحدة، وقّعت كاليفورنيا قانوناً لمكافحة معاداة السامية. ورغم الترحيب بهذه الخطوة، دعا مرصد الأزهر إلى تعميمها لتشمل مكافحة الإسلاموفوبيا، مؤكداً أن العدالة فى حماية المعتقد يجب أن تكون شاملة.
وفى إسبانيا تضاعف عدد المساجد بنسبة 95 ٪ منذ 2011 ليصل إلى نحو ألفى مسجد. ورغم ذلك، يواجه اليمين المتطرف (حزب فوكس) حملة لإلغاء دروس التربية الإسلامية، التى لا يحصل عليها سوى 45.4 ٪ من الطلاب المسلمين المستحقين.
وفى فرنسا سجلت مبادرات مثل مسيرة «سان بريوك» رفضاً شعبياً للإسلاموفوبيا، كما أنصف القضاء كلية «أفيسين» الإسلامية فى نيس، مؤكداً سيادة القانون على الأيديولوجيا.
وفى ألمانيا، قدمت مبادرة «السماء والأرض» (هاله-نوشتات) نموذجاً حياً للتعاون البيئى بين المسلمين والمسيحيين.
وفى بريطانيا، فتحت فعالية «زر مسجدي» المساجد للمجتمع المحلي، ما أعاد الاعتبار للدين كقوة إيجابية للاندماج.
وفى إسبانيا، تتخذ النيابة العامة إجراءات ضد معتدٍ على امرأة بسبب الحجاب، وتدعم مبادرات السلام مثل المنتدى الدولى الثانى للسلام فى غرناطة.
التطرف الرقمى واللاجئون
لم يعد التطرف محصوراً، بل يُبث علناً عبر منصات مثل «تيك توك» و»يوتيوب»، مستغلاً خوارزميات موجهة لاستهداف الشباب والأطفال، مما يزيد من خطورة نشر محتوى الكراهية.
وقد أدى تدهور الأوضاع فى مخيمات كوكس بازار إلى تضاعف عدد لاجئى الروهينجا المغادرين عبر القوارب ثلاث مرات. هذا التدهور يأتى وسط نقص حاد فى التمويل الإنساني، ما يدفع العائلات للمخاطرة بأرواحها.
وتكشف هذه التحديات عن فقدان التوازن بين المصالح السياسية والقيم الإنسانية. يشدد مرصد الأزهر على أن الحلول المستدامة تتطلب منظومة متكاملة تقوم على ست ركائز أساسية: تعزيز الحوار، ومحاربة الكراهية بجميع أشكالها، ودعم التعليم الذى يصون الهوية، وضمان الحقوق الدينية، وحماية اللاجئين، ومواجهة التطرف الفكرى والرقمى والتعايش. فى هذا السياق، لم تعد مكافحة التطرف خياراً أخلاقياً فحسب، بل إجراء أمنى واجتماعى ضرورى لصيانة النسيج المجتمعي.
فى عالمٍ يموج بالتناقضات، تظلّ فلسطين مرآةً للضمير الإنساني، تكشف زيف الشعارات وعمق الازدواجية. ومع تصاعد التطرف والإسلاموفوبيا، يبرز صوت مرصد الأزهر كمنارة عقلانية تدعو إلى التوازن بين الأمن والعدالة، وبين الحرية والمسؤولية. فمستقبل العالم لن يُبنى على القوة، بل على الحقّ والإنصاف والحوار، حيث لا مكان لازدواجية تكيل بمكيالين، ولا لمعايير تنتقى ضحاياها وفق الهوى السياسي.