الورقة التي لم تسقط في فصل الخريف، خائنة في عيون أخواتها، وفية في عين الشّجرة، ومتمردة في عيون الفصول، فالكل يرى الموقف من زاويته.
تأملت هذه العبارة لمكسيم جوركي طويلاً، فوجدت فيها تلخيصًا عجيبًا لطبيعة الإنسان، ولذلك الصراع الدائم بين أن تكون وفيًا لما تؤمن به، أو خاضعًا لما ينتظره منك الآخرون. فالحكم في النهاية لا يصدر عن الحقيقة، بل عن زاوية الرؤية. وما تراه أنت إخلاصًا قد يراه غيرك خروجًا، وما تسميه وفاءً قد يسميه آخر خيانة.
الورقة التي تشبثت بغصنها في موسم السقوط لم تكن تجهل قوانين الطبيعة، لكنها فقط اختارت ألا تسقط مع أول ريح. أرادت أن تمنح نفسها فرصة أخيرة، وأن تبقى على قيد الضوء لحظة أطول. تراها أخواتها الورق خائنة لأنها لم تشاركهن الرحيل، بينما تراها الشجرة رمزا للوفاء، لأنها بقيت تحرس جذورها وتغطيها في البرد، تنتظر أن تمرّ العاصفة بسلام. وهي في الحقيقة ليست خائنة ولا متمردة، بل فقط صادقة مع نفسها.
كم من ورقة بشرية في حياتنا رفضت السقوط فاتهمها الجميع! كم من إنسان تمسّك بموقفه وسط موجة الخضوع، فصُوّر على أنه مغرور أو عنيد، بينما كان في الحقيقة أكثرهم إخلاصًا لفكرته أو لضميره. نحن في العادة نحكم على الناس من الخارج، لا من الداخل، من الصوت لا من النية، من الظاهر لا من الجذر. نرى الموقف بعيننا فننسى أن للآخرين عيونًا أخرى يرى كلٌّ بها الحقيقة من زاويته الخاصة.
هنا تتجلى حكمة الفيلسوف الروماني ماركوس أوريليوس حين قال: “كل ما تسمعه هو مجرد وجهة نظر، ليس الواقع.
وكل ما تراه هو مجرد منظور، وليس الحقيقة».
كم من مرة ظننا أننا نعرف الحقيقة الكاملة، فإذا بنا نكتشف أننا كنا نرى جانبًا واحدًا منها! النظرة ليست دائمًا رؤية، والاختلاف ليس دائمًا خصومة، والحقيقة، مثل النور، تتغير شدتها باختلاف الزاوية التي تمر منها.
الفصول ترى الورقة الثابتة على الغصن خروجًا على القانون، والأوراق الساقطة تراها متكبرة، أما الشجرة فترى فيها بقايا حبها الأول للحياة. وهكذا نحن البشر: نبدّل مواقعنا بين الفصول والأوراق والأغصان، فنحكم على الآخرين بما كنّا عليه نحن، لا بما هم عليه فعلاً. إننا نميل إلى تصنيف المواقف بسرعة، لأننا نخاف من الحيرة، والحيرة في الحقيقة ليست ضعفًا، بل وعيًا بوجود أكثر من وجهٍ للحقيقة.
ربما لو نظرنا إلى التاريخ من عيون الشجرة لا من عيون الريح، لعرفنا أن كثيرين ممن وُصفوا بالخيانة، كانوا في أعماقهم أوفياء لأفكارهم ولضمائرهم. الزمن وحده هو الذي يكشف موقع الورقة الحقيقي: أكانت خائنة أم مخلصة، متمردة أم شجاعة؟ الورقة التي رفضت السقوط اليوم قد تكون هي التي حفظت البذرة التي أنبتت غابة جديدة غدًا.
نحن في مجتمعاتٍ تخاف من المختلف، تميل إلى اللون الواحد وتخشى التباين. نريد أن تسقط كل الأوراق معًا، في اللحظة نفسها، حتى لا نشعر بأن أحدًا تجرأ على البقاء. لكن الحياة، في جوهرها، لا تعرف هذا النوع من الانسجام القسري. فيها من يسقط في موعده، ومن يتأخر قليلًا، ومن يرحل قبل الأوان. وكلٌّ له حكمته وسببه ومساره.
الورقة الحائرة هي نحن جميعًا حين نقف بين الخوف من السقوط والرغبة في البقاء، بين طاعة الريح والتمسك بالجذر، بين أن نرضي الآخرين أو نرضي أنفسنا. إنها تلك اللحظة الإنسانية التي نُدرك فيها أن الحقيقة ليست واحدة، وأن الحكم السريع هو أقرب أنواع الخيانة للعدالة.
في النهاية، كل ما نسمعه عن الآخرين هو مجرد وجهة نظر، وكل ما نراه فيهم هو منظورٌ ناقص، أما الحقيقة فهي أكبر من عيوننا ومن لغتنا. الورقة التي يراها البعض خائنة قد تكون في الحقيقة أكثرنا وفاءً. والتمرد أحيانًا ليس رفضًا للحياة، بل دفاعًا عنها. ومن يملك شجاعة البقاء في وجه الريح، لا يستحق اللوم، بل التقدير، لأنه اختار أن يكون نفسه في زمنٍ يتسابق فيه الجميع إلى التشابه.
الورقة الحائرة بين الخيانة والتمرد والوفاء، ليست سوى رمزٍ للإنسان الحرّ، الذي يجرؤ على أن يرى بعينه لا بعين الجماعة، وأن يختار طريقه ولو كان معزولًا. فالبقاء صامتًا في وجه السقوط العام ليس ضعفًا، بل نوعٌ من الإيمان بأن الربيع سيعود يومًا، وأن الوفاء الحقيقي لا يُقاس بموعد الرحيل، بل بالقدرة على الثبات حتى النهاية.