الفهم الصحيح هو ما نحتاجه بشدة في كل القضايا، حتى لا تخدعنا الأكاذيب ولا تفتنا الشائعات، ولا تقودنا جماعات الخيانة إلى فهم خاطئ يؤثر على خياراتنا.
والوصول إلى هذا الفهم الصحيح يتطلب المعلومة التي لا يمكن الحصول عليها إلا من مصدرها الموثوق، وليس من السوشيال ميديا، أو قنوات مأجورة وموجهة.
في الاقتصاد نحتاج بشدة أن نفهم ماذا يجري وفى الأمن القومى نحتاج أن نعرف حجم التحديات وخطورتها، وفى السياسة نحتاج الوقوف على المطلوب لتحقيق الإصلاح الحقيقي، وفي الانتخابات نحتاج أن نعرف الأفضل لبلدنا.
هذه المرة نبدأ بالفهم الصحيح فى الاقتصاد، والذي يتطلب ألا نسلم آذاننا لمن يريدون تشويه كل شيء، وصناعة الخوف وتدمير الدولة، فهؤلاء لن نسمع منهم كلمة موضوعية، ولن نعرف منهم حقيقة بل سنسمع كل ما يجعلنا غاضبين ضد الحكومة ومؤسسات الدولة.
الفهم الصحيح في الاقتصاد يتطلب أن نسأل المتخصصين الوطنيين وهم كثيرون ليسوا منتمين لحزب ولا منحازين للحكومة وإنما يتحدثون بقناعة ورؤية موضوعية من أجل الصالح العام للمواطن والدولة.. هؤلاء هم من يجب أن نستمع إليهم، ونعرف منهم إجابات عن تساؤلاتنا الاقتصادية المشروعة.. ومنها:
- هل كنا في حاجة إلى ما تم من إصلاح اقتصادي؟ أم كان يمكن أن تسير الأمور كما كانت؟
- وهل كان يمكن أن تستمر الدولة بنظام المسكنات؟، وهل كان من المفترض أن يظل الدعم كما هو دون ضوابط؟
- وهل مصلحة المواطن في الإصلاح وإن كان مُرًا أم فى الارتكان إلى مبدأ أن الدولة هي التي تتحمل المسئولية عنه في كل شيء؟
- وماذا يجب أن يفعل المواطن، وما هى حقوقه وواجباته في ظل ما تواجهه الدولة من تحديات اقتصادية؟
- وهل ما يحدث فى مصر جديد أم أن هناك دولاً فى العالم مرت به؟
إجابات هؤلاء المتخصصين هى التى ستكشف لنا الحقيقة وتيسر لنا الفهم الصحيح المبنى على معلومات وتجارب، وتشرح لنا دون انحياز لحكومة أو عداء أعمى للدولة، وعندما نستمع إلى هؤلاء سنجدهم لا ينكرون معاناة المواطن وتحمله، ولا يخفون أن تكلفة الإصلاح عالية يتحملها المواطن، لكنهم أيضاً يؤكدون أن الإصلاح كان ضرورة لا بديل لها، وأنه تأخر كثيرا، ولو تم مبكرًا منذ سبعينيات القرن الماضى لما كنا فى احتياج إلى ما نقوم به الآن.
سيؤكد لنا المتخصصون أننا الآن ندفع فاتورة خمسين وربما سبعين عاما ماضية، فضلت الدولة خلالها اللجوء إلى تسكين الأمور، وخافت من التدخل حتى لا يغضب المواطن، وكانت النتيجة أن المواطن وصل في النهاية إلى حد الانفجار، وخرج غاضباً في 2011 لأنه رغم المسكنات لم يعد متحملا للوضع.
مما ساعد جماعات الخراب على استغلال الوضع والقفز على حكم البلاد، فلم تصلح المسكنات فى إرضاء المواطن، لأنها وصفة خاطئة بل خادعة له، ومدمرة لاقتصاد الدولة التى ظلت تتحمل وتدفع دعما بلا عقل ولا حساب، حتى أثقلتها التكلفة، ولم تعد قادرة، وأصبح الاقتصاد منهكاً لأن الدعم تحول إلى سفه والخدمات تدهورت، وأصبحت في مستوى لا يليق، والمواطن يعيش بقدر المستطاع، والدولة نفسها وإن كانت تحقق نموا لكنه لم يكن يصل إلى المواطن البسيط، ولا يشعر به ولا يجد ما يحتاجه من حياة كريمة وعلاج مناسب وفرص عمل.. وكان الحل وروشتة العلاج الأفضل للمواطن والدولة أن يكون هناك قرار جريء بإصلاح الخلل، أن يتوجه الدعم لمن يستحقونه، وأن يتحمل القطاع الخاص مسئوليته في التنمية وأن تفتح الدولة الباب للاستثمار الذي يوفر فرص العمل ويزيد الناتج القومى ويزيد كفاءة الاقتصاد القومي، ويحصل المواطن على حقوقه ويتحمل واجباته.
صحيح أن هذا التحول متعب لبعض الوقت، لكن المؤكد أنه إنقاذ دائم لدولة كانت على حافة الخطر بلا مبالغة.
صحيح أن المواطن يعانى من تبعات الإصلاح، وتحاول الدولة أن تخفف من هذه التبعات خاصة على الفئات الأكثر احتياجاً، لكن أيضاً سيتحقق تصحيح المسار الذى يستفيد منه الجميع.
لا ينكر الخبراء والمتخصصون الوطنيون أنه من الطبيعي أن يتألم المواطن ويشكو من زيادة أسعار الوقود أو هيكلة أسعار الخدمات، أو رفع سعر رغيف الخبز بالتأكيد لا أحد يقبل بالزيادة في أي أسعار لكنهم أيضاً يسألون بموضوعية شديدة: وهل كان طبيعيا أن يظل سعر الرغيف لأكثر من 20 عامًا ثابتا لا يتغير، وهل حدث هذا في أي دولة في العالم؟!
سؤال آخر.. هل أسعار الوقود على مدى السنوات بل العقود الماضية كانت تخدم المواطن المستحق للدعم، وهل من الطبيعي أن تدعم ميزانية الدولة ملاك السيارات دون معايير، وهل معقول أن يدفع المواطن مليون جنيه على الأقل ثمنا للسيارة ولا يتحمل نصيبه في السعر الحقيقي للوقود؟ وهل يعلم أحد أن دعم الوقود يوميًا يصل فى المتوسط إلى نحو نصف مليار جنيه ونسبة ليست قليلة منه تهدر في استهلاك السيارات الخاصة وبينها الفارهة.
هل يعلم أحد أن زيادة أسعار الوقود لا تقلل الدعم الذي تتحمله الدولة، وإنما ميزتها أنها تمنح فرصة أفضل لإعادة تخصيص جزء من هذا الدعم إلى ملفات أخرى أولى وأهم مثل العلاج والتأمين الصحى الشامل الذي تنفذه الدولة الآن بمعدلات إنجاز جيدة ويستفيد منه فعلياً أبناء المحافظات التى بدأ تطبيقه فيها.
وفي هذا التأمين الصحى لا يتحمل المواطن سوى أرقام هزيلة مقابل العلاج حتى أن الجراحة التى تتكلف مليون جنيه يدفع فيها المواطن أقل من 500 جنيه على الأكثر.
أيهما أولي، أن نظل ندعم البنزين والسولار والبوتاجاز في ظل ثقافة إهدار استهلاك عامة، أم ندعم ونوفر تكلفة العلاج والعمليات الجراحية لملايين يستحقونها ولا يقدرون على تكلفتها؟!
بالمناسبة يكاد يجمع خبراء الاقتصاد على أن أسعار الوقود مهما ارتفعت لا تهدم دولة لأنها تخاطب فئات بعينها، وتأثيراتها متفاوتة ويمكن حماية الأكثر احتياجاً من هذه التأثيرات بوسائل أخري لكن إذا فقد المواطن الأمل فى العلاج أو فى الأكل والشرب ولم يجد الدولة بجواره وتتحمل عنه يمكن أن يدمر الدولة بالغضب فالعلاج والطعام يعنيان صحة وطن ويعنيان الأمل عند المواطن.
وهنا يأتى سؤال مهم: إلى متى نتحدث عن إصلاح متعب ولا نجد نتائج؟ سؤال يطرحه البعض بحسن نية ورغبة فعلية فى المعرفة، وآخرون بسوء نية ومحاولة إظهار أنه لا أمل ولا فائدة من الإصلاح.
والحقيقة أن أي منصف سيجد أن الثمار تحدث ونلمسها يومياً وإن كانت لا تزال تحتاج وقتا.
- فماذا تعنى قدرة الدولة الآن على توفير ما يقرب من 900 ألف فرصة عمل سنوياً وتقليل نسبة البطالة إلى 6.4 بالمائة لأول مرة؟
- ماذا يعنى استكمال مشروع التأمين الصحى الشامل الذي عجزت عن استكماله دول كبرى اقتصادياً؟
- ماذا يعنى استصلاح أكثر من مليونى فدان أضيفت إلى المساحة الزراعية لتوفر لنا جزءا كبيرا من احتياجاتنا الغذائية وتقلل فاتورة الاستيراد المدمرة؟
- ماذا تعنى المشروعات الكبرى التى تتم فى كل القطاعات؟
- ماذا يعنى مشروع الإسكان الاجتماعى وبدائل العشوائيات التي أنقذت أكثر من 280 ألف أسرة من خطر السكن فى مناطق غير آمنة؟
- ماذا يعنى برنامج مثل تكافل وكرامة الذى تستفيد منه نحو 5 ملايين أسرة حتى الآن؟
- ماذا يعنى ارتفاع عدد السياح لأكثر من 17 مليون سائح هذا العام؟
- ماذا يعنى تزايد الاستثمار المباشر وهل كان يمكن أن يحدث هذا لولا الإصلاح؟
- ماذا تعنى قوة الدولة وامتلاكها قدرات تجعلها آمنة ضد أي خطر بما يحمى أمن المواطن ومقدراته؟
هذه بعض الثمار التي يمكن أن نتحدث عنها ويرصدها المتخصصون ليؤكدوا أن الإصلاح لم يكن ترفاً بل ضرورة وطنية.
هذا هو الفهم الصحيح الذى يجب أن نتسلح به. ولا يعنى هذا أن المواطن لا يغضب ولا ينتقد الحكومة بل هذا واجب وضرورة لتظل الحكومة حريصة على أن تفعل الأفضل وتصححمن مسارها دائما.
لكن تبقى معلومة واحدة.. أن الإصلاح الذى نتحدث عنه سواء في مصر أو فى دول أخرى لم يحدث فى يوم وليلة ولا بضغطة زر، فإذا كنا نقرأ عنه فى صفحات معدودة فى الكتب لكن الحقيقة أن هذه الصفحات تلخيص لسنوات طويلة استغرقتها كل تجربة إصلاح والتضحيات التى تطلبتها والمعاناة التي فرضتها لفترة لكن في النهاية كل تجربة إصلاح أصبحت حكاية نجاح لشعب كامل يتباهى بها ويحصد ثمارها.
حدث هذا فى اليابان وفى ألمانيا وفي دول النمور الآسيوية، وفى مصر حدث فى عهد محمد على ومع عبد الناصر بعد ثورة يوليو.
ومصر الآن تكتب تجربة إصلاح تؤكد كل المؤشرات ويجمع كل الخبراء على أنها أنقذت البلد من الانهيار، ومع اكتمالها ستكون تجربة متفردة نظراً لطبيعتها والظروف التى حدثت فيها.. والبطل فيها كما يقول السيد الرئيس السيسي هو الشعب.