كتبت : نهى حامد
من بين الحطام والغبار، وأنين بيوت انهارت على ساكنيها، بفعل الغارات الوحشية، تنهض فلسطين من جديد. لم يعد الحلم مقتصرًا على هدنة أو معبر مفتوح، بل على دولةٍ تسعى لتقوم من تحت الأنقاض، تكتب فصلاً جديدًا فى تاريخها الطويل نحو الحرية والكرامة.
مع اتساع رقعة الاعتراف الدولى بها كدولة مستقلة، تتجه الأنظار الآن إلى السؤال الأهم: هل سيكتفى العالم بالاعتراف السياسي، أم سيمد يده للمشاركة فى إعادة بناء الأرض والإنسان؟
شهد قطاع غزة على مدار العامين الماضيين، واحدة من أعنف الحروب فى التاريخ الحديث، ارتقت لتصنيف حرب إبادة. ووفقًا لتقرير صادر عن المكتب الإعلامى الحكومى فى غزة قدرت خسائر القطاع الاقتصادية بنحو 70 مليار دولار، وهى فقط الخسائر المباشرة الأولية لـ15 قطاعا حيوياً، ومعظمها فى قطاع الإسكان الذى يمثل أكثر من 70٪ من حجم الخسائر، بينما توزعت النسبة الباقية على قطاعات الصحة والتعليم والمياه والكهرباء.
يُتوقع أن تمتد عملية الإعمار بين خمس إلى عشر سنوات على الأقل، فى حال توافر الاستقرار السياسى والتمويل الكافي، حيث يحتاج القطاع لإعادة بناء ما يزيد على 460 ألف وحدة سكنية وتأهيل المستشفيات والمدارس وشبكات المياه والكهرباء، بحسب تقارير محدثة نشرتها وكالة الأنباء الفلسطينية «وفا».
فى هذا السياق، طرحت مصر خطتها الشاملة لاعادة الاعمار، والتى أصبحت خطة عربية متكاملة قُدمت إلى الأمم المتحدة فى مارس 2025، تقسم الخطة عملية الإعمار إلى ثلاث مراحل:
الأولى لإزالة الأنقاض وتوفير مساكن مؤقتة، والثانية لإعادة بناء البنية التحتية والمؤسسات، والثالثة للتنمية طويلة المدي.وتشمل الخطة كذلك إنشاء ميناء ومطار ومنطقة صناعية فى غزة لتوفير فرص عمل وتحريك الاقتصاد المحلي.
لم تخرج الخطة إلى النور، حيث لم يهدأ أزيز الطائرات ودوى الانفجارات واستمر شلال الدم فى الانهمار، حتى تم التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار بفضل جهود الوساطة المصرية بمشاركة قطرية وأمريكية فى مؤتمر شرم الشيخ التاريخى.
كان من ثمار الاتفاق، أن تعلن مصر عن استضافة مؤتمراً دولياً فى نوفمبر المقبل للتعافى المبكر وإعادة الأعمار والتنمية فى غزة، حيث أكد وزير الخارجية الدكتور بدر عبدالعاطى أن التحضيرات جارية لعقد المؤتمر الذى يأتى فى إطار الجهود الدولية الهادفة إلى دعم الشعب الفلسطينى وإعادة إعمار قطاع غزة وأعلن عن موعد المؤتمر فى منتصف نوفمبر القادم وأكد الرئيس عبدالفتاح السيسى أن مصر ستكون مبادرة بالمساهمة فى الإعمار.
كما أشار وزير الخارجية إلى أن مصر تتطلع إلى مشاركة فاعلة من مختلف أطراف المجتمع الدولي، موضحاً أن المؤتمر سيعقد ضمن إطار الخطة العربية الإسلامية التى سبق أن أقرت من قبل الدول العربية والإسلامية وعدد من الدول الصديقة وبما يتسق مع الجهود الدولية الرامية لتنفيذ خطة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب للسلام فيما يتعلق بإعادة تنمية قطاع غزة.
أعباء ما بعد الحرب
يقول أحد خبراء التنمية فى برنامج الأمم المتحدة الإنمائى إن إعادة إعمار غزة لن تكون مجرد عملية بناء جدران، بل إعادة بناء حياة. فالدمار طال كل مظاهر المعيشة، أكثر من 80 ٪ من المساكن تضررت جزئيًا أو كليًا، 80 ٪ من محطات المياه خرجت عن الخدمة، مئات المدارس والمستشفيات دمرت أو توقفت، والبطالة ارتفعت إلى أكثر من 70 ٪ ويضيف التقرير أن عدد الأطنان المتوقع رفعها من الركام يتجاوز 55 مليون طن.
فى ظل هذا الواقع، تبدو الحاجة ماسة إلى مشاركة دولية واسعة تتجاوز حدود التمويل، لتشمل تقديم الخبرات الفنية، وإقامة شراكات مع القطاع الخاص، وضمان الشفافية فى إدارة الأموال المخصصة للإعمار.
اعترافات دولية.. وميلاد سياسى جديد
بجانب دعوات إعمار ما دمرته الحرب الهمجية، يتخذ المسار السياسى خطاً موازياً، حيث تتجه بوصلة العالم نحو تثبيت الكيان الفلسطينى كدولة مستقلة.فبعد إعلان الاستقلال عام 1988، وحصول فلسطين على صفة «دولة مراقب غير عضو» فى الأمم المتحدة عام 2012، شهد عام 2025 طفرة كبيرة فى عدد الدول التى أعلنت اعترافها الرسمى بها.
فحتى سبتمبر 2025، وصل عدد الدول المعترفة بدولة فلسطين إلى نحو 157 دولة من أصل 193 دولة عضو بالأمم المتحدة، أى ما يعادل أكثر من 80 ٪ من المجتمع الدولي.
وصفت الأمم المتحدة هذه الخطوة بأنها تحول تاريخى فى الموقف الدولى تجاه القضية الفلسطينية.كما ارتفع مستوى تمثيل فلسطين فى المنظمات الدولية، وازدادت الدعوات لضمها كعضو كامل فى الأمم المتحدة، رغم استمرار معارضة الولايات المتحدة وعدد من حلفائها.
هذه الاعترافات منحت الفلسطينيين دفعة معنوية وسياسية غير مسبوقة، ورسالة واضحة بأن العالم بدأ يتعامل مع فلسطين كدولة، لا كقضية مؤقتة.
لكن فى المقابل، يرى محللون أن الاعتراف السياسى وحده لا يكفي، ما لم يصاحبه تمكين اقتصادى ومادى يجعل الدولة قادرة على ممارسة سيادتها على أرضها وإدارة شئونها دون اعتماد دائم على المساعدات.
بين الاعتراف والإعمار
وسط مخاوف من اكتفاء العالم بالاعتراف الرمزى بدولة فلسطين، تبدأ المطالبات بإظهار الاستعداد لتحمل مسئولياته فى بناء الدولة الفلسطينية فعليًا. يرى خبراء أن غياب الدعم الفعلى سيجعل الاعتراف السياسى مجرد «ورقة دبلوماسية»، بينما ستبقى الدولة الفلسطينية رهينة للركام ما لم يتحول التضامن إلى «خطة مارشال» فلسطينية – على غرار الخطة التى أعادت بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
يضيف الخبراء أن العالم اليوم أمام اختبار حقيقي: هل ستتحول الاعترافات الدولية إلى مشروع بناء شامل ينهض بحياة ملايين الفلسطينيين؟ أم سيبقى المشهد محصورًا فى بيانات سياسية ووعود غير مُلزمة؟ والجواب، وفقاً لهم، يتوقف على مدى استعداد المجتمع الدولى لتجاوز الشعارات، والمساهمة فعليًا فى تمويل الإعمار وضمان استقراره السياسى والأمني.
وفى هذا السياق، دعت مصر دول العالم إلى دعم فكرة الدولتين ودعم الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 4 يونيو 1967.
أمل يولد من الرماد
رغم كل شيء، لا تغيب مشاهد الأمل فى غزة، حيث بدأ الأهالى بإزالة الحطام بأنفسهم، وبنوا خيام تئويهم فوق بقايا منازلهم، وأُقيمت مدارس مؤقتة فوق أنقاض المدارس المهدمة، وأعاد الأطباء فتح عيادات داخل الخيام.
تلك المبادرات الفردية تجسد روح الصمود الفلسطينية التى لا تنكسر، وتجعل من فكرة «دولة من تحت الركام» حقيقة تولد من الإصرار على الحياة.
يقول أحد المتطوعين فى خان يونس: قد لا نملك معدات ثقيلة، لكننا نملك إرادة أثقل من الركام نفسه. فى هذه الكلمات تتجلى فلسفة البقاء الفلسطيني: دولة لا تنتظر من العالم أن يبنيها، بل تبنى نفسها رغم العالم. فما بين الاعتراف الدولى والإعمار الفعلي، تتشكل ملامح الدولة الفلسطينية الجديدة.
إن قيام فلسطين من تحت الركام لن يكون مجرد إنجاز وطني، بل إعادة تعريف للضمير الإنساني، وفرصة للعالم ليبرهن أن الاعتراف بالحق لا ينفصل عن الإسهام فى صنعه.