عندما استدعيت خبيرًا متخصصًا فى تقليم الأشجار كى يقوم بما هو مطلوب فنيًا لعدد من أشجار الحديقة التى زرعتها بيدي، كنت أشعر بشيء من الفخر والاعتزاز. هذه الأشجار لم تكن بالنسبة لى مجرد نباتات صامتة، بل كائنات حية رافقتنى منذ كانت شتلات صغيرة أرويها بحب، وأرعاها بطمأنينة، وأتأملها كل صباح وهى تمتد نحو الضوء كأنها تسبّح بالحياة. كنت أفرح حين تتشعب أغصانها وتتعانق فى السماء، وأعتبر كل غصن جديد علامة على نجاحى وصبرى ورعايتي. كنت أرى فى كل ورقة خضراء دليلاً على أن ما زرعته بيدى يعيش وينمو ويثمر.
> > >
دخل الخبير ذات صباح يحمل أدواته: مقصات لامعة، ومناشير حادّة، وبلطة صغيرة تتأرجح فى يده بثقة العارف بما يفعل. وقفت أراقبه فى صمت يشوبه القلق، كأب يرى طبيبًا يقترب من طفله بسكين الجراحة. لم تمضِ دقائق حتى بدأ الرجل بقطع أغصان بدت لى جميلة ومثمرة، وراح يجتزّ فروعًا كنت أعتبرها تاج الشجرة وزينتها. لم أتمالك نفسى فصرخت فيه غاضبًا: لماذا تفعل هذا؟ لماذا تقطع كل هذه الفروع؟! إنك تشوّهها وتؤذيها! نظر إليّ الرجل مبتسمًا وقال بهدوء العالم الذى لا يندهش من جهل العاطفة: هذه الفروع يا سيدى معطلة لنمو الشجرة. إنها تمنع الشمس من الوصول إلى أوراقها، وتستهلك غذاءها بلا طائل. لو تركناها، لخنقت الشجرة نفسها ولما أثمرت شيئًا فى الموسم القادم.
> > >
توقفتُ لحظة أتأمل كلامه، وساد صمت غريب بيننا، كأن الأشجار نفسها فهمت ما قال. أدركت حينها أن ما يفعله هذا الرجل ليس جريمة فى حق الشجرة، بل رحمة بها. لقد كان يعلّمنى درسًا لم أكن أتوقعه. ففى حياتنا، كما فى البستان، لا بد من تقليمٍ دوريّ يطرد العفن ويمنح الهواء فرصة للتجدد. نحن أحيانًا نُغرم بفروعٍ يابسة فقط لأنها كانت خضراء يومًا ما، نتمسك بها بعنادٍ أعمي، فنمنع الحياة عن غيرها.
> > >
خطرت لى عندها فكرة أن «فلسفة التقليم» لا تخص الأشجار وحدها، بل تخصنا نحن أيضًا: فى علاقاتنا، فى أعمالنا، فى صداقاتنا، بل وفى منظومات الحكم والسلطة التى تنظم شئون الناس. فكم من علاقة إنسانية تشبه غصنًا ميتًا، يثقل القلب ولا يمده بأى ثمرة! وكم من شخص يظل فى موقعه لا لأنه يُثمر، بل لأن أحدًا يخاف أن يقترب بالمقص من اسمه أو مكانه! وكما قال البستاني، إن لم نقصّ اليوم، ستذبل الشجرة كلها غدًا.
> > >
الحكمة ليست فى الإبقاء على كل غصن، بل فى معرفة أيها يجب أن يُبقى وأيها يُقص. والأمم التى تفهم ذلك تعرف أن التغيير ليس خطرًا، بل ضرورة. فالشجرة التى لا تُقلم تموت واقفة، تغطيها الأوراق اليابسة وتخنقها أغصانها المتشابكة. وكذلك السلطة التى لا تجدد نفسها، ولا تغير بعض الأشخاص حين يطول بقاؤهم حتى يتحولوا من غصون مثمرة إلى عوائق للنمو. إن البقاء فى المكان ذاته ليس فضيلة حين يتحول إلى جمود، والوفاء للمناصب لا يساوى شيئًا إذا كان الثمن هو ذبول الجذع.
> > >
إن تغيير بعض الأشخاص فى مواقعهم ليس قسوة ولا إهانة، بل فعل رحمة بالشجرة كلها. فهناك من يظن نفسه الجذع بينما هو مجرد غصن، وهناك من ينسى أن الضوء لا يصل إلى الجميع إذا احتكر مكانه فى الأعلي. التقليم لا يعنى الكراهية، بل الفهم العميق لطبيعة النمو. حين يقص البستانى غصنًا مثمرًا أحيانًا، فإنه لا يكرهه، بل يمنحه فرصة لأن ينمو فى مكان آخر. كذلك الإصلاح فى المؤسسات أو الحكومات: لا بد من تدوير الأدوار وتجديد الوجوه وضخّ دماء جديدة كى تظل الشجرة قوية قادرة على مقاومة العواصف.
> > >
كل شيء فى الطبيعة يقوم على التجدد، والجمود وحده ضد قانون الحياة. حتى النهر الذى لا يتحرك يتعفن ماؤه، والهواء الذى لا يتجدد يصبح خانقًا. لذلك فالتقليم ليس خيارًا تجميليًا، بل شرط للبقاء. إننا حين نخاف من المقصّ، نخاف فى الحقيقة من التغيير، من الاعتراف بأن بعض الفروع لم تعد تصلح، وأن بعض الظلال وإن بدت جميلة، تحجب النور عن غيرها.
> > >
تعلمت من البستانى أن الشجرة التى تُقلم بحكمة تنمو أكثر، وأن الجرح المؤقت فى الغصن هو الثمن الطبيعى للثمر القادم. ربما نحتاج نحن أيضًا إلى بستانى من هذا النوع فى حياتنا العامة، بستانى لا يخاف من المقصّ ولا يستخدمه بدافع الانتقام، بل بعين خبيرة تعرف الفرق بين الغصن الحى والغصن الميت. بستانى يعى أن التغيير ليس فوضي، وأن الحفاظ على الجذور لا يعنى تجميد الفروع.
> > >
فى النهاية، أدركت أن تقليم الأشجار ليس مجرد عمل زراعي، بل فلسفة فى الحياة. فلسفة تقول إن الحب الحقيقى لا يعنى أن نترك الأشياء على حالها، بل أن نمنحها فرصة لتتنفس من جديد. فالشجرة التى تُقلم تعود أكثر قوة وبهاء، والحديقة التى تُهمل تتحول إلى غابة من الظلال الميتة. وكذلك حياتنا، إن لم نجرؤ على القص بحكمة، سنختنق بأغصاننا المتشابكة ونفقد قدرتنا على الإزهار. التقليم هو سرّ البقاء، والمقصّ فى يد الحكيم ليس سلاحًا، بل وعدٌ بالحياة.