خلال رحلاتى المتعددة إلى خارج مصر، لم أكن أراقب أداء الحكومات بقدر ما كنت أفتش فى ملامح الشعوب. كنت أبحث عن روح المجتمع، عن تلك الخيوط الدقيقة التى تنسج سلوك الناس فى الشوارع الأمامية والخلفية، فى الميادين العامة، وفى التفاصيل الصغيرة التى لا تراها عدسات الأخبار ولا تلتقطها نشرات المساء.
وضعت لنفسى مجموعة معايير بسيطة لكنها كاشفة: نظافة الشوارع، عدد المتسولين، الانضباط المروري، الاهتمام بالأشجار والنباتات والزهور، سلوك الشباب والفتيان فى الأماكن العامة، وجود الصحف الورقية فى الأكشاك، وسائل النقل الجماعى وكيفية التعامل معها، ثم مدى اهتمام العوام بالقضايا الوطنية.
هذه المعايير كانت بوصلتى فى كل بلد أزوره، ومنها كنت أستنتج العنوان العريض الذى يلخص روح ذلك البلد.
كنت دائمًا أفتح أبواب الحوار العفوى مع الناس، لا مع المسئولين ولا مع النخب، بل مع أولئك الذين يشكلون نبض الشارع الحقيقي. أتحدث مع سائق تاكسى فى نيويورك، أو بائعة فى متجر بطوكيو، أو طالب فى مقهى بموسكو، وأسألهم جميعًا السؤال ذاته:
هل أنتم سعداء ببلادكم؟ وهل تشعرون بالفخر لأنكم تنتمون إليها؟
ثم أتابع بسؤال آخر، أختبر به نبضهم الجمعي: ما هى المشكلة الكبرى التى تشغل بلدكم؟
كنت على يقين أن كل أمة لديها ــ جرحها المفتوح ــ، القضية التى تلهب النقاشات وتشغل العقول.
الأمريكيون مثلًا حديثهم لا يخلو من ملف الهجرة، والأوروبيون قلقهم الدائم من روسيا، والصينيون من أمريكا، والباكستانيون من الهند، ودول الخليج من إيران، والفرنسيون من صعود مارين لوبان.
من تلك الإجابات جمعت أرشيفًا صغيرًا فى ذهنى لعناوين كبرى تلخص كل دولة ومجتمع.
لكن بقيت فى ذاكرتى تجربتان لا يمحوهما الزمن، لأنهما شكّلتا بالنسبة لى لوحة استثنائية من الوعى الجمعى والحب الوطنى النقي: روسيا واليابان.
فى روسيا تحديدًا، أحسست بأن الشعور الوطنى لديهم ليس مجرد عاطفة، بل عقيدة. حب الوطن هناك أشبه بمعدن نادر، سبيكة نقية لا تخالطها شوائب.
الروس لا يتباهون بوطنهم بالكلام، بل يعيشونه فى كل سلوك. فى وجوههم، فى انضباطهم، فى احترامهم للتاريخ، وفى قناعتهم أن بلدهم هو المركز مهما تبدلت الأحوال.
هناك غيرة وطنية يصعب وصفها، غيرة تجعلهم لا يقبلون أن يُمسّ وطنهم بكلمة، ولا أن يُنقص أحد من قدره، حتى ولو كانوا على خلاف داخلي.
فى موسكو رأيت الشوارع نظيفة رغم البرد، والناس تتحرك فى صمت منظم. لا ضجيج زائداً، لا فوضي، لا تهاون.
تشعر أن هناك ما يشبه ــ الاتفاق غير المكتوب ــ بين الجميع على صون هيبة المكان والانتماء إليه.
فى الأحاديث العابرة مع الروس، لا تسمع نقدًا عبثيًا، بل نقدًا من داخل الإخلاص، كمن يلوم ابنه لأنه يريد له أن يكون أفضل.
الروح الروسية مزيج من الكبرياء والحزن الجميل، من الشجن التاريخى الذى مرّ عليهم عبر الحروب والمآسي، ومن الإصرار على البقاء كأمة عظيمة لا تنكسر.
حين يتحدث الروسى عن بلده، تشعر بأنك أمام شخص يتحدث عن أمّه لا عن وطنه.
وفى المقابل، هناك اليابان، تلك الدولة التى علّمت العالم كيف يمكن للألم أن يتحول إلى طاقة بناء.
اليابانيون الذين ذاقوا ويلات الحرب، ونهضوا من رماد القنابل النووية، لم يرفعوا شعارات الانتقام ولا جلسوا على أطلال الماضي، بل التفتوا إلى الغد، إلى التعليم، إلى النظام، إلى الجمال.
ما يدهشك فى اليابانيين هو أنهم لا يتحدثون كثيرًا عن الوطنية، لكنك تراها فى كل شيء حولك: فى نظافة الشوارع، فى احترام الوقت، فى انحناءة الرأس عند التحية، فى التزام الصمت داخل القطارات، فى اعتزازهم بالصناعة المحلية، وفى تعليمهم أطفالهم أن اليابان ليست مجرد جزيرة، بل فكرة يجب أن تظل حيّة.
اليابانيون مثل الروس، لديهم تلك ـــ السبيكة النادرة ــ التى تربط المواطن بالأرض والتاريخ والهوية.
كلا الشعبين تعلّم أن العظمة لا تُمنح من الخارج، بل تُصنع من الداخل، وأن الشعور الوطنى ليس كلمات تُردَّد، بل ممارسة يومية فى السلوك والعمل والاحترام.
ما يميز روسيا واليابان فى نظرى أن كلاهما نجح فى الحفاظ على تماسكه الداخلى رغم كل الضغوط والتغيرات.
فى زمن العولمة السائلة الذى تذوب فيه الحدود والهويات، ظل الروس واليابانيون متشبثين بجذورهم، مخلصين لفكرتهم عن أنفسهم.
قد يختلف نظام الحكم، وقد تتنوع الآراء، لكن الإيمان بالوطن ثابت لا يتزحزح.
وأنا أتأمل فى هذه السبيكة الروسية النادرة، أدرك أن سرّها الحقيقى ليس فى الاقتصاد ولا فى السلاح، بل فى تلك الروح التى تتوارثها الأجيال، والتى تجعل كل فرد يشعر بأنه جزء من قصة أكبر من نفسه.
ربما لهذا السبب، حين تنظر فى عيون الروس، ترى فيها شيئًا من الكبرياء القديم، وشيئًا من الحنين، وشيئًا من الإيمان بأن روسيا باقية مهما تغيّر العالم من حولها.
وحين أغادر موسكو متجهًا إلى القاهرة، يراودنى سؤال: هل يمكن أن نصنع نحن أيضًا سبيكتنا الخاصة؟
سبيكة مصرية نادرة من التاريخ والوعى والانتماء.
الإجابة ليست بعيدة، لكنها تحتاج أن نرى الوطن كما يراه الروس واليابانيون: فكرة مقدسة، لا صفقة مؤقتة.
وطن نحبه بلا شروط، ونغار عليه بلا حدود، ونربى أبناءنا على أنه أثمن ما نملك.