في زخم متواصل، تواصل قيمة الدولار الأمريكي صعودها منذ الاجتماع الأخير للجنة السوق المفتوحة الفيدرالية. ويأتي هذا الصعود مدعومًا بارتفاع طفيف في العوائد وتباين في أداء الأسهم الأمريكية، حيث تراجعت الشركات الموجهة للسوق المحلية أمام عمالقة التكنولوجيا، في حين حافظ المصدرون في منطقة اليورو على وضع أكثر استقرارًا.
ويتعمق هذا الاتجاه الصعودي مع اتساع الفجوة في المسارات المتوقعة لأسعار الفائدة بين الولايات المتحدة وبقية الاقتصادات الكبرى، دون أن تلوح في الأفق أي ضغوطات على عمليات التمويل بالعملة الأمريكية.
على الصعيد المصري، حيث يعتمد الاقتصاد على ركائز حيوية مرتبطة بالدولار كإيرادات قناة السويس والسياحة والواردات الأساسية، تُترجم هذه البيئة العالمية إلى سياسات مالية أكثر تشددًا، وإن كانت لا تعكس حتى الآن أي اختلالات بنيوية في الأسواق.
هنا، تبرز تساؤلات ملحّة: ما هي القوى الدافعة وراء هذا الصعود؟ إلى متى قد يستمر؟ وما هي الاستجابة المثلى التي يتعين على صنّاع السياسات والمسؤولين عن الخزانة في القاهرة تبنيها؟ طرحت الجمهورية هذه التساؤلات على الخبير الاقتصادي الإسباني خوليو ألونسو أورتيغا، الشريك بشركة القبس للاستشارات الليبية.
سؤال: ما هو المحرك الجوهري لموجة صعود الدولار الراهنة؟
جواب: في جوهرها، تمثل أسعار الصرف مرآة للفوارق المتوقعة في مسارات السياسة النقدية ومعدلات التضخم. فمنذ الاجتماع الأخير للجنة السوق المفتوحة الفيدرالية، رسّخت الأسواق قناعتها بأن الولايات المتحدة ستتبنى نهجًا أبطأ في خفض أسعار الفائدة مقارنة بمنطقة اليورو.
ويتجسد هذا التباين بوضوح في الفجوة بين منحنى العائد الأمريكي “SOFR” ونظيره الأوروبي “اليوريبور”، حيث يمنح استقرار المنحنى الأمريكي عند مستويات أعلى حائزي الدولار عائدًا متفوقًا على المدى المنظور. ومع اتساع هذا الفارق، تتجه تدفقات رأس المال العالمية طبيعيًا نحو الأصول المقومة بالدولار، مما يعزز قيمته.
والأهم من ذلك، أن هذه الظاهرة لا تنبع من شح في السيولة الدولارية كما قد يظن البعض. فلو كان الأمر كذلك، لرصدنا مؤشرات إجهاد هيكلية، مثل التوترات في أسواق مبادلة العملات، أو اختناقات في أسواق إعادة الشراء (الريبو)، أو اتساع حاد ومفاجئ في هوامش الائتمان، وهي مؤشرات غائبة تمامًا عن المشهد الحالي. إن ما يحدث فعليًا هو إعادة تسعير عقلانية لمسار الفائدة المستقبلي، مما يدعم الدولار دون إحداث أي صدمات للبنية التحتية للنظام المالي العالمي. وبالنظر للمستقبل، يظل العامل الحاسم هو مراقبة الفارق في توجهات السياسة النقدية؛ فأي تقارب بين المسارين عبر تسريع وتيرة الخفض في الولايات المتحدة سيؤدي حتمًا إلى تآكل الزخم الصعودي للدولار.
س: هل يُنذر صعود الدولار حتمًا باقتراب اضطرابات سوقية أو اقتصادية؟
ج: ليس بالضرورة على الإطلاق؛ فقوة الدولار النابعة من تباين السياسات النقدية تميل إلى إعادة رسم الخارطة التنافسية للسوق، لا إلى إيقاف محركات الدورة الاقتصادية. فالشركات ذات التدفقات النقدية القوية والقدرة على فرض أسعارها عالميًا تكتسب منعة، بينما تتراجع جاذبية نظيراتها في الولايات المتحدة المثقلة بتكاليف التمويل المرتفعة. وعلى الجانب الآخر، يشكل ضعف اليورو محفزًا تنافسيًا للمصدرين الأوروبيين.
يكمن التشخيص الدقيق في التمييز بين كونه “تناوبًا في القيادة” (Rotation) أو “صدمة نظامية” (Systemic Shock)؛ فالأول نتيجة طبيعية لتكيف الأسواق، بينما الثاني ينجم عن جفاف السيولة أو انهيار الأرباح. والمشهد الحالي يندرج بوضوح تحت سيناريو “التناوب”. بيد أن نقطة التحول الحاسمة تظهر عندما يتسبب صعود الدولار في الضغط المتزامن على الشركات الصغيرة المحلية والشركات القيادية العملاقة. فهذا التزامن هو الإشارة القاطعة على أن هوامش الربحية تتآكل على مستوى الاقتصاد الكلي، وأننا بصدد الدخول في مرحلة انكماشية أشد خطورة.
س: في أي طور تقف الدورة الاقتصادية العالمية، وما هي المنهجية المثلى للمستثمرين لتجاوز ضجيج تقلبات العملات؟
ج: نحن نشهد مرحلة نضج متقدمة للدورة الاقتصادية، وهي بيئة وإن كانت أقل زخمًا، إلا أنها تظل بناءة للاستثمار المنضبط. فالسيولة لا تشهد تسارعًا، لكنها في المقابل لا تنكمش، والنمو يظهر فتورًا طفيفًا، لكنه أبعد ما يكون عن الانهيار. في مناخ كهذا، ينتصر الانضباط الاستراتيجي على ردود الفعل الآنية. لذا، يجب أن يرتكز الاهتمام على الأصول فائقة الجودة: تلك التي تتمتع بملاءة مالية قوية، وتدفقات نقدية حرة ومستقرة، وهياكل ديون متحفظة.
ويجب أن تكون الفوارق في مسارات السياسة النقدية هي البوصلة الحقيقية لقرارات العملة، لا التقلبات العابرة. إن قوة الدولار الحالية ليست إلا انعكاسًا مباشرًا لتفوق عائده المتوقع؛ وعندما يتقلص هذا الفارق، سيتراجع الدولار حتمًا. وحتى ذلك الحين، فإن السيناريو الأرجح هو تناوب في قيادة السوق، وليس انكسارًا حادًا في الدورة الاقتصادية.
س: في ضوء الوضع المصري، ما هي الاستجابة الاستراتيجية المثلى لصنّاع السياسات ومديري الخزانة في الشركات؟
ج: تكمن المقاربة الصحيحة في تصنيف صعود الدولار كتحدٍ هيكلي يتعلق بـ«شروط التبادل التجاري» وديناميكيات التوقيت، لا كأزمة طارئة تستدعي تدخلًا عاجلاً. فالاقتصاد المصري، الذي يعتمد على الدولار لسداد فاتورة وارداته الحيوية ويجنيه من قطاعات محورية كقناة السويس والسياحة، يواجه مهمة دقيقة تتمثل في مواءمة هذه التدفقات ثنائية الاتجاه لضمان استقرار النظام.
وعوضًا عن الصفقات الضخمة أحادية التنفيذ، تتمثل الاستراتيجية المثلى في التحوط من الالتزامات المستقبلية بالعملة الصعبة عبر مراكز أصغر حجمًا ومتجددة، مما يمنع مخاطر التركز في سعر وتوقيت واحد. وبالمثل، فإن جدولة عمليات شراء الدولار الدورية على امتداد الشهر والفصل تخفف من حدة الضغط اللحظي على السوق. أما في أوقات الذروة، فيجب توجيه الفوائض الموسمية من العملة الصعبة لدعم رأس المال العامل للمستوردين في أشد أوقات حاجتهم.
ويتوجب أن تخضع الأسعار المُدارة لتعديلات منهجية وشفافة لترسيخ ثقة السوق وتوقعاته، فالتمرير العشوائي للتكاليف اليوم يمهد لتصحيحات عنيفة غدًا. الغاية الاستراتيجية هي بناء منظومة مرنة: حيث يُسمح لسعر الصرف بامتصاص الصدمات الخارجية، بينما تتركز الجهود على تحصين استقرار التدفقات النقدية في العمق الاقتصادي.
س: ما هي نقاط التحول التي قد تنقلنا من صعود الدولار المنظم، المدفوع بفوارق الفائدة، إلى موجة ذعر وهروب من المخاطرة؟
ج: هناك ثلاثة مؤشرات إنذار حرجة تستدعي اليقظة التامة. الأول، ظهور إجهاد تمويلي لا لبس فيه، يتجسد إما في اتساع منهجي لأسس مبادلة العملات، أو في بروز اختناقات تمنع تسييل الضمانات عالية الجودة. الثاني، صدمة نقدية حادة ترفع العوائد الحقيقية في مواجهة توقعات أرباح متدهورة، مما يطلق حلقة مفرغة من انكماش مضاعفات الربحية وتشديد الأوضاع الائتمانية.
الثالث، صدمة نمو معاكسة تدفع الاحتياطي الفيدرالي إلى خفض الفائدة بشكل طارئ وأسرع من المتوقع، ومع ذلك، يفشل هذا التدخل في استعادة الثقة بالأصول الخطرة. هذه الديناميكيات غائبة تمامًا عن الساحة اليوم، لكن تبلور أي منها سيكون إيذانًا بتحول جذري في رواية السوق، مما يفرض إعادة هيكلة استراتيجية للمراكز الاستثمارية لمواجهة بيئة جديدة كليًا.
س: ختامًا، ما هي رسالتك لصنّاع القرار والقراء في القاهرة؟
ج: تمتلك مصر المقومات اللازمة لعبور هذه المرحلة بنجاح، شريطة الالتزام بالانضباط والمنهجية في تطبيق أدواتها؛ فالتحوط الممنهج للسلع الأساسية، وجدولة مشتريات الدولار، وتوجيه الدعم لرأس المال العامل للمستوردين المنتجين، هي ركائز تمكّن الاقتصاد من امتصاص الصدمات الخارجية وتجنب الدخول في دوامات تقلب لا طائل منها. إن تدفقات الدولار الوافدة إلى البلاد هي بمثابة صمام أمان طبيعي، والإدارة الرشيدة للسيولة هي وحدها القادرة على إطلاق كامل إمكاناته.
وعندما يتبدل المشهد العالمي، ستكون منحنيات الفائدة هي البوصلة الأولى للإنذار، لذا يظل الفارق بين دل التمويل المضمون لليلة واحدة واليوريبور هو المؤشر المحوري الذي يجب مراقبته. ولكن حتى ذلك الحين، بوسع مصر أن تقود هذه المرحلة، لا أن تنقاد لها، من خلال إدارتها بثقة وهدوء، تاركةً لمصداقية سياساتها المتراكمة إنجاز المهمة الأكثر تعقيدًا.